عدن وظاهرةُ ازدياد أعداد الحمير
أ. د. عبد العزيز صالح بن حبتور *
لم يعد مستغرَباً أن يشاهدَ المرءُ تجوُّلَ “قوافل” الحمير في أحياء التواهي والمعلا وكريتر والمنصورة، وهي ظاهرة لم تُشاهد إلا لِماماً من قبلُ في عدن.
قد يستغربُ القارئُ اللبيبُ من محتوى مقالنا، ومن العنوان على وجه الخصوص، لكن، وقبل الخوض في تفاصيل مدلول العنوان، أودُّ أن أستعرضَ تاريخاً موجزاً عن عدن، مدينة النور والسلام، مدينة التعايش السلمي بين الأديان والأعراق، وأن أشيرَ إلى أن هذا التاريخ الجميل الَّذي يتباهى به أعيان عدن ومواطنوّها وسكانها اصطدم في هذا الزمن بمظاهرَ يندُرُ تصديقُها، وتتعارَضُ مع منطق الأشياء التي تحدث اليوم في شوارع مدينة عدن وأحيائها و”حوافيها”.
تُشير المصادر التاريخيّة لتاريخنا الحديث إلى أنَّ الاستعمار البريطاني أوجد في مدينة عدن أولَ مشروع للمياه في مطلع القرن العشرين، وكان مشروعاً خدماتياً اقتصاديًّا ناجحاً حقّق للمدينة أحد عوامل البقاء والاستقرار والعيش الكريم لمواطنيها. قد يقول قائل: إنَّ هذا المشروع إنَّما أتى به المستعمر لريِّ ظمأ جنوده من العطش فحسب، لكن، والحق يُقال، ظفر المواطن العدني بأحد إنجازات “الحضارة” الاستعمارية البريطانية آنذاك، وهو بطبيعة الحال إنجاز يُسجَّل لمن نفَّذ ذلك المشروع الاستراتيجي.
سبقت عدن كُـلّ مدائن شبه الجزيرة العربية في الارتواء بشربة ماءٍ هنية. لقد سبقت مُدُناً صاخبةً مثل الرياض والكويت ودبي والدوحة وأبو ظبي، ولكن من كان سيصدق أنَّ هذه المدينةَ الساحلية الجميلة التي أنيرت شوارعُها، ومدت أنابيب المياه فيها، وخُططت شوارعُها وضواحيها بتخطيطٍ حضري قلَّ نظيرُه في مدائنَ أُخرى، تعيشُ اليومَ حالةً مأساويةً يُرثى لها.
رحم اللهُ الخالةَ رقية العدنية، مسؤولةَ البوفيه في كليتنا، حين كانت تردّد مقولة كُـلّ عجائز مدينة عدن. أتذكِّرُها حين كانت تردّد المَثَل العدني الشهير: “فين كان مخبَّى لك هذا يا عدن؟!” بحسرة حين يتأخر عامل البوفيه لإحضار متطلبات نشاطها اليومي فحسب، وهي مقولة عدنية رقيقة تردّدها الأُمهات والخالات والجدات العاديات، وحتى المثقفات منهُنَّ، فكيف لو امتد بها العمر لتشاهد هذا العبث العظيم بحياة مواطنيها وأهلها في مدينتها الأنيقة عدن!
صحيحٌ جِـدًّا أن المدينةَ لم تعشْ طيلةَ حياتها حياةً مُستقرةً مُزدهرة، وهذا حالُ المدن المهمة على مستوى العالم، فأحياناً تعيشُ تلك المدن حالةً من الاستقرار لزمن، ويأتي زمنٌ آخر تدخل فيه معترك الأزمات، ولكنها سرعان ما تتجاوز واقعها لتستقر أمورها، غير أن ما تعيشه عدن اليوم هو ملهاة ومأساة معاً، إذ يمارَسُ عليها عبث العابثين بعد أن استباحها أعداء الحياة المنتقمون من تاريخ المدينة وثقافتها ومَدَنيّتها وحضارتها، إنْ جاز هنا التعبير.
يستطيع المتابعُ المنصِفُ القول: إنَّ الخدمات في مدينة عدن (كهرباء، ماء، بلديات، بريد، تلغراف، وغيرها من الخدمات) كانت تُقدَّمُ للمواطنين بمعايير أزمانها، لتصلَ إلى درجةِ جيدٍ جِـدًّا، وترتفعُ إلى درجةِ الامتيَاز، ففي مرحلةِ الاحتلال البريطاني، عاشت ذروةُ خدماتها، وكذلك عاشت خدماتُها بشكلٍ جيدٍ جِـدًّا في زمن الحزب الاشتراكي اليمني التوتاليتاري.
وفي زمنِ الوحدةِ اليمنيةِ المباركة، عاشت كذلك بشكلٍ يتراوحُ بين الجيد جِـدًّا وما فوق، وهذا لا يعفينا من القول إنَّ هناك بعض الأزمات والاختناقات التي تخللتها في أزمنة محدّدة وقصيرة فحسب، لكن يا غارة الله مما يحدث الآن من انتقام ثقيل لأهالي عدن الكرام، ليصل انقطاع الكهرباء فيها يوميًّا، وفي ذروة الصيف، إلى 12 ساعة يوميًّا في المتوسط، أي عقاب جماعي هذا بحق عدن وأهلها الكرام؟!
أما انقطاع المياه، وبلسان أهلها المحتجين، وفي ضواحيها العديدة، فيصل إلى شهر بالوفاء والتمام. ولهذا، تجد شباب تلك الأحياء يخرجون محتجين بين الحين والآخر بقطع الشوارع وإحراق الإطارات ووضع الحواجز في الطرقات.
أمَّا قصة عنوان مقالنا وتشريفنا هذه المرَّة للحمير بأن تكون في صدر المقال، فلها أكثر من دلالة:
أولاً: ازداد الطلب الكبير على الحمير المستوردة من أرياف لحج والضالع وأبين، وتم استجلابها لتحل محل مشاريع ضخ أنابيب مياه الشرب؛ كي تصل إلى الأحياء المرتفعة في ضواحي التواهي والمعلا وكريتر الجبلية، وحتى حي الشيخ عثمان والمنصورة المنبسطة أصلاً، وتحوَّلت الحمير إلى حاجة موضوعية حقيقية للاستفادة منها في نقل المياه الصالحة للشرب بواسطة “الدبب الصفراء” المحمولة على ظهورها. تخيَّلوا كم أصبحت خدمات الحمار حيوية واستثنائية في هذا المجال وغيره! وللعلم، فَـإنَّ عدن استغنت لعقودٍ طويلة من الزمان عن خدمات الحمير وما شابهها من الأنعام.
ثانياً: لم يعد مستغرَباً أن يشاهدَ المرءُ تجوُّلَ “قوافل” الحمير في أحياء التواهي والمعلا وكريتر والمنصورة، وهي ظاهرة لم تُشاهد إلا لماماً من قبل في عدن، لكن في زمن تحرير عدن من نظامها الخدمي، تحولت الحمير إلى ما يشبه علامة مميزة للأحياء العدنية.
ثالثاً: كُـلُّ ما عانته وتعانيه مدينةُ عدنَ وأهلها الأَجلاءُ في السنوات الخمس ونصف السنة الأخيرة، أي بعد تموز/ يوليو 2015م وحتى كتابة مقالنا هذا، من انعدام في الأمن العام، وتناقص حادٍّ في الخدمات، وتغول للفوضى، وانتشار لعصابات الاختطاف والقتل، ونهب الممتلكات العامة والخَاصَّة؛ كُـلّ ذلك بسَببِ الاحتلال الإماراتي السعودي للمدينة، لكن يأتي من يبرّر ذلك.. عدا ذلك وبمعزل عنه، الحمير تميَّزت بالعمل والكد والالتزام، وحتى الذكاء، ولو لم يكن الحمار حيواناً محترماً، لما اختاره الحزب الديموقراطي الأميركي شعاراً له.
رابعاً: يردِّدُ البعضُ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل إعلام دول العدوان السعودي -الإماراتي – الأميركي، وحتى وسائل إعلام المرتزِقة والعملاء اليمنيين، بأنَّ عدن “تحرّرت”. نقول لهؤلاء القوم: مِمَّن تحرّرت مدينة عدن؟ كلما سمعت هذا القول تذكرت قول الخالة رقية (رحمها الله)، وهي تردّد بحسرة: “فين كان مخبى لك هذا يا عدن؟!”؛ لأَنَّ المصطلح صادم حين يكرّره هؤلاء.
خامساً: عندما تشاهد تلك الملهاة المحزنة في شوارع عدن اليوم، وتشهد تلاقي طابور الحمير الطويلة والمستوردة من محافظات لحج والضالع وأبين، وتقارنها بأرتال السيارات المصفحة إماراتياً، وأنواع السيارات الأُخرى من نوع “الهامفي” و”سترايكر” و”برادلي” المستوردة من أميركا، تكون المقارنة صادمة ومحزنة في آنٍ واحد، أليست هذه الصورة قُبحاً بوَّاحاً اعتمده المحتلّ الإماراتي السعودي الجديد لمدينتنا عدن، لكي يكسر من خلال الصورة إرادَة الإنسان اليمني وكرامته؟ نحن نبحث هنا عن إجَابَة منطقية وعقلانية من هؤلاء.
سادساً: يبني الأَعْرَاب، وهُم المستعمرون الجُدُد من مجلس التعاون الخليجي، مواقفَهم السياسية والأخلاقية تجاه عدن واليمن عُمُـومًا من مواقف وآراء العملاء والمرتزِقة القاطنين في فنادق الرياض وأبو ظبي، وهذا لعمري خطأ فادح قد ارتكبوه، وهو خطأهم الاستراتيجي التاريخي الذي تورطوا فيه من خلال الانغماس في دماء الأبرياء من الشعب اليمني؛ لأَنَّ الخليجيين في هذه الحالة تناسوا حقيقةَ أنَّ اليمن وعدن مليئان بالأحرار الذي يرفضون الاستعباد والضيم والاستعلاء، وسيكون مصيرهم كمحتلّين شبيهاً بما حدث للمحتلّين السابقين.
سابعاً: يتساءل المواطنُ العَدني ومعه اليمني: هل يبلغُ هؤلاءِ الأَعْرَابُ هذه الدرجةَ من الكِبر وتضخيم الذات الخاوية لكي يقعوا في تلك الخطيئة الكبرى في عدم التمييز لكي يصنعوا جاراً عدواً لهم، ويبنوا ذلك الجدار الفاصل بينهم وبين الشعب اليمني، الجدار المكوّن من الكراهية والحقد والبغضاء، والذي لا ينتهي بسهولة إلا بعد قرون من الزمان. وقد تناسوا أنَّ الشعب اليمني بتاريخه العريق كان، ولا زال، مِحور ذلك التاريخ ونكهته التي ستبقى باقية إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ بمن عليها.
خلاصة القول لـ”أشقائنا” الجيران بأنْ يضعوا البصرَ والبصيرةَ بُوصلةً للتعامل مع جيرانهم وأشقائهم اليمنيين، وأنْ يتعلَّموا من سردية التاريخ اليمني أنَّ اليمن وشعبه العظيم ثابتٌ في أرضه، مُتَّكئ على إرثه الحضاري، وأنَّ “الغِنى والفقر” غير دائمين، وأنَّ عليهم احترام إرادَة اليمانيين الأحرار.
﴿ وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾..
* رئيس مجلس الوزراء.. صنعاء / نوفمبر/2020م
التعليقات مغلقة.