إسرائيل. أيديولوجيًّا إلى أين؟
د. محمد البحيصي*
في الوقت الذي كانت فيه أُورُوبا في أواسط القرن التاسع عشر تعيش انتشار الأفكار التي عبّرت عنها (الثورة الفرنسية) من خلال شعاراتها (الحرية والمساواة والإخاء)، فَــإنَّها كانت تصطدم بنمو الفكر القومي وتطوّر المشاريع (الاستعمارية) العسكرية التي من خلالها تمّ لأُورُوبا السيطرة على معظم أجزاء كرتنا الأرضية..
وفي هذا المناخ العام الذي كانت تتحكّم فيه التيارات الثلاثة (الليبرالية، القومية، الكولونيالية) وراجت فيه الأفكار العلمانية، وشهد انحسار الدّين من الحيّز العام إلى الحيّز الخاص، حَيثُ جرت عملية خصخصة الدين، وتمّ بناء مفهوم جديد للأُمَّـة والدولة، وصار عالم السياسة مفتوحاً أمام الجميع.
لم يعد الوجود اليهودي على ضفاف المجتمع المسيحي الأُورُوبي وهوامشه أمراً مفروغاً منه، وبات هناك ضرورة لأن يُعرّف اليهود عن أنفسهم من جديد، متأثّرين بالفكر القومي الشرق أُورُوبي والمشروع القومي الذي هو في الأَسَاس مبني على أَسَاس عِرقي –لُغوي- وشائجي تسبق فيه القومية وجود الدولة، فهي التي تقيم الدولة، وهي (أي القومية) قائمة قبل الدولة وبعدها، وما الدولة ضمن هذا المنظور سوى أدَاة للمشروع القومي، فهي دائماً في خدمة القومية وخاضعة لتحقيق أهدافها…
ومن هنا جاءت الصهيونية لتجيب على (المسألة اليهودية)، مسألة معاناة اليهود وملاحقتهم وصعود (اللاساميّة) بالأدوات والمفاهيم ذاتها التي كانت سائدة في أُورُوبا، وخُصُوصاً في شرقها، وتبنّت المفاهيم القومية والليبرالية نفسها، وأحياناً تبنّت المقولات اللّاسامية في خطابها القائم أَسَاساً على توحيد اللغة والأرض..
فالدولة القومية تقوم على أرض محدّدة، وحدودها واضحة، وَإذَا أرادت الصهيونية أن تُعرّف عن نفسها بصفتها صاحبة مشروع قومي، فعليها أن تُعيد اليهود واليهودية بالمفاهيم الأُورُوبية القومية العلمانية، وأن تموضع نفسها جغرافياً؛ وهذا هو لبّ الفكرة الصهيونية.
علاقةُ الصهيونية باليهودية:
في القراءة التاريخية المُجَـرّدة (وهذا ليس محل بحثنا) نجد أنّ الصهيونية المسيحية كانت سابقة من حَيثُ النشأة للصهيونية اليهودية، وبهذا تكون الصهيونية المسيحية هي الأصل بينما الصهيونية اليهودية هي أحد فروعها وهذه القراءة هي التي تشرح طبيعة العلاقة بين الفريقين، والوظيفة المتبادلة بينهما..
وهي أَيْـضاً تفسّر بعض المواقف اليهودية المعارضة للصهيونية في حينه..
فبموجب (الصهيونية) يستطيع المرء أن يكون ملحداً، وأن يكون يهودياً متديّناً في الوقت نفسه..
وقد شكّل هذا الفهم الجديد لليهودية؛ باعتبارها قومية وليست ديناً تهديداً مباشراً للجماعات اليهودية التي اعتقدت أنّ اليهودية دين فحسب، وهذا هو الذي حافظ (حسب رأيها) على الوجود اليهودي عبر التاريخ.
لقد حاولت الصهيونية الاستئثار بعالم الرموز الدينية بعد أن نصّبت نفسها معبّراً ومفوّضاً عن اليهود، ومن هذه الرموز «أورشليم» «صهيون» «أرض إسرائيل» «الخلاص» «الشتات» «خلاص الأرض»… إلخ.
وهو ما دفع المجموعات الأرثوذكسية اليهودية لاعتبار الحرب مع الصهيونية هي حرب دفاع عن النفس، بمعنى حرب للدفاع عن أملاكها الرمزية والمعنوية التي خطفتها الصهيونية، وكانت الصهيونية بالنسبة لهذه الطائفة «حركة قومية صرفة» وليس بينها وبين الدين أي رابط.
وهذا ما يجيب على السؤال حول حقيقة العلاقة بين الصهاينة الأوائل (المؤسّسين) وبين الدين، حَيثُ كان جلّ هؤلاء من العلمانيين أَو الملحدين من أبناء الثقافة الغربية، ولا سيّما ثقافة شرق أُورُوبا، وكانوا يعرّفون أنفسهم كعلمانيين وصهيونيين في آن واحد، وكانوا يشدّدون على الطبيعة الثورية للحركة الصهيونية، على كونها انقلاباً على اليهودية والدّين وخَاصَّة في موضوع «الخلاص» الذي كان ينظر إليه من المتدينين اليهود على أنّه خلاصٌ سماوي، بينما كان العلمانيون الصهاينة يرونه خلاصاً مرتبطاً بالعامل الذاتي الدنيوي..
فالصهيونية بهذا المعنى هي مشروع لإعادة اليهود إلى مسرح التاريخ، وبما أنّ اللاعبين على هذا المسرح بحسب الثقافة الأُورُوبية هم الذوات القومية، فَــإنَّ هذا يتطلّب صوغ مشروع يهودي قومي جغرافي يعيد إلى اليهود دورهم كلاعب، وكذات تاريخية فاعلة تأخذ مصيرها بيديها، وتخرج اليهود من الحالة السلبية التي عاشوها في أُورُوبا، إلى حالة عمل سياسي وفعلي..
فالخلاص لا يأتي من الابتهال لله، وإنّما من العمل السياسي الجمعي القومي، أمّا فكرتا «خلاص الأرض» وَ«جمع الشتات» فلا تتمان عبر الصلوات، وإنّما عبر المبادرة والعمل، والعودة إلى صهيون لن تنتظر المسيح المنتظر، بل يجب القيام بها هنا والآن وبجهد جماعي، وبمساعدة القوى العظمى، (بحسب الرؤية الصهيونية).
ومع هذا فَــإنَّ الصهيونية لم تستطع أن تُعرّف عن نفسها، وأن تبني مشروعها خارج المنظومة اللغوية الرمزية الدينية، وبالتالي لم تستطع القطع بينها كحركة علمانية قومية، وبين التراث الديني اليهودي، ولقد أدرك «تيودور هرتسل» أنّه لن يكون في قدرته تجنيد أوساط واسعة لمشروعه من دون أن يوظف الدّين، وبالتالي فَــإنَّه ينهي كتابه «البلاد القديمة الجديدة» بالقول: «إنّ من سيقيم الدولة في نهاية المطاف لن تكون التكنولوجيا، ولا الثقة بالنفس، ولا القوى العظمى، وإنّما الله… وكان من مبرّرات ودوافع اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحدّ ذاته يعتبر أُسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين وصرخة عظيمة تجمع اليهود».
ولم يختلف دافيد بن غوريون نفسه عن توظيف (الدين) اليهودي وأساطيره كأدَاة في خدمة المشروع الصهيوني، وكمبرّر أيديولوجي وأخلاقي لمشروع الدولة الصهيوني.
ومن هنا يرى البعض أنّ الصهيونية ما هي إلّا محاولة لتفسير الأُسطورة الدينية اليهودية، وليست عملية استبدال جذرية للأُسطورة، فجلّ ما فعلته الصهيونية هي أنّها أسبغت على الأُسطورة الدينية مفاهيم قومية أُورُوبية، وهنا وقع التقاطع بينها وبين المشروع الغربي في الحقبة الأُورُوبية لتأسيس الدول على أسس قومية، لقد تبلّورت فكرة «القومية اليهودية» واعتبار اليهودية قومية جامعة لليهود لأجل تذويب العوائق القومية للجماعات اليهودية في أُورُوبا وفي العالم كمقدمة لتأسيس دولة لهم خارج أُورُوبا، وبالتالي حَـلّ ما سُمّي في حينه «المسألة اليهودية» التي طرحت نفسها بقوّة أُورُوبياً في تلك الفترة، وهي في الحقيقة إحياء للفكرة الأقدم التي تبنّتها الكنيسة البروتستانتية كمشروع خلاص لليهود وللتخلّص منهم بعد اليأس من تنصيرهم ودمجهم في الكنيسة..
فكانت فكرة «القومية المؤسّسة على الدين» هي الوصفة الأولى في خارطة طريق تأسيس الكيان الصهيوني ورعايته، وهي وصفة استثنائية تخالف كُـلّ تعريفات القومية في أُورُوبا وغيرها، وهذا الاستثناء فرضته تركيبة الجماعات اليهودية التي تنحدر من عشرات القوميات والعرقيات بما يستحيل معه جمعها على قومية واحدة، ومن هنا جاءت فكرة قومية الدين، وبهذا المعنى فَــإنَّ الصهيونية ليست مُجَـرّد حركة قومية وظّفت الدين كطريقة للحشد وتأجيج المشاعر، بل هناك ارتباط أكثر عضوية بين الدين والقومية؛ لأَنَّ الحديث يدور عن قومية موجّهة إلى الدين، ودين موجّه إلى جماعة قومية ليكون هناك تطابق بين الجماعة الدينية والجماعة القومية.
وذلك بخلاف علاقة الدين مع الشعوب والقوميات، فمثلاً هناك عرب غير مسلمين، وهناك مسلمون غير عرب، أمّا هنا فالمطلوب أن يكون اليهودي مهما كانت قوميته (الأصلية) منتمياً إلى الجماعة القومية اليهودية، فاليهودية هي القومية فحسب، وليس لليهودي قومية غيرها، وهذا يساعدنا في فهم تركيبة الدولة الإسرائيلية، فهي علمانية من جهة ودينية من جهة أُخرى، فهي مزيج من الجهتين، وبالتالي فهي تعيش حالة من الانفصام بين أن تكون أُورُوبية الأدوات والمفاهيم وبين أن تعيد اليهود إلى التاريخ بمفاهيم ذلك التاريخ، وبين هذا وذاك فهي تلتقي مع أُورُوبا في موضوع العنصرية، وموضوع الهيمنة، وهذه هي القيم المشتركة التي كَثيراً ما يتحدّث عنها رعاة الكيان الصهيوني في أُورُوبا وأمريكا؛ ولذا فمن المهم أن ندرك أن «إسرائيل» مشروع غربي مُستمرّ وليس مُجَـرّد دولة، وهي تحديداً دولة مهاجرين من نوع خاص، وذلك لسببين:
أولاً: إنّ هُــوِيَّة المهاجرين الدينية محدّدة سلفاً، فاليهودي يهاجر إلى فلسطين؛ لأَنَّه يهودي؛ أي أنّ هُــوِيَّته الدينية هي التي تحدّد مكان هجرته.
ثانياً: إنّ الهجرة لا تحدث لأسباب مادية فحسب وإنّما لاعتبارات أيديولوجية حدّدت له مكان هجرته..
وحتى تكون (إسرائيل) وطناً قومياً لليهود أَو فيه أغلبية يهودية وهو الشيء الذي لم تنجح فيه الصهيونية، فَــإنَّه يجب إزاحة أَو طرد الفلسطينيين من فلسطين؛ لأَنَّهم يقفون حاجزاً بين الذات والموضوع؛ أي بين اليهود وأرض إسرائيل، ومن هنا تكوّنت النظرة عن الفلسطينيين بأنهم سكان فائضون عن الحاجة يجب التخلّص منهم، وإلى جماعة بلا حقوق، وهم عامل معرقل لعملية الاستيطان، ولعملية الخلاص اليهودية، حَيثُ الجانب القومي الديني في المشروع الصهيوني يلزمهم بعدم الاعتراف بوجود جماعة قومية أُخرى غير يهودية، وهذا ما تتبنّاه اليوم وبشكل فجٍّ وعلني (الحكومة الإسرائيلية) التي يهيمن عليها أصحاب هذا التوجّـه، بينما كان أصحاب التوجّـه القومي العلماني أقل حدّة في هذه المسألة لمراعاتهم ضرورات أصحاب المشروع الأصليين؛ وأعني بهم أُورُوبا وأمريكا ومصالحهم في المنطقة، مع اتّفاق بينهما على ضرورة أن يتنازل الفلسطيني عن حقّه في السيادة على أرضه.
العلاقة بين قدرة الجيش الإسرائيلي وتماسك هُــوِيَّة مجتمعه:
مع البدايات الأولى للحركة الصهيونية وقفت الأرثوذوكسية اليهودية في مواجهة الحركة الصهيونية وقاطعتها واتّهمتها بالكفر والإلحاد، وبتدمير اليهودية كدين..
ولكن وإزاء قدرة الحركة على التعامل مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد، وعلى إدارة شبكة علاقات دولية منحتها امتيَازات اقتصادية وسياسية جعلتها أكثر تأثيراً في حياة اليهود عامة، واعتماد قوى يهودية دينية عديدة على مصادر مالية من خارج المجموعات اليهودية المتدينة، والنجاحات التي حقّقتها الحركة الصهيونية من وعد بلفور إلى الهجرات التي واكبته، والكوارث التي حلّت باليهود في أُورُوبا وربّما كان أكثرها مفتعلاً لتعزيز رواية الحركة الصهيونية التي يقودها العلمانيون لدفع اليهود للاندماج في هذه الرواية وتحقيقها في الواقع الذي رسمته سلفاً نحو تأسيس الدولة القومية اليهودية في فلسطين، كُـلّ هذا جعل من المتعذّر على الحركات الأرثوذوكسية اليهودية الاستمرار في معارضتها لفكرة الحركة الصهيونية حول قيام دولة يهودية، ووصل الأمر ببعض قادتها لأن يصرّح بأنّ قيام دولة إسرائيل هو «ضرورة حيوية» لا لإيواء اليهود الناجين من الكارثة وحمايتهم فحسب، بل هذا ما تتطلبه اليهودية بذاتها، وعندما أُقرّ قرار التقسيم /181/ في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، صرّح أحد قادة حركة (أغودات إسرائيل): «بأنّ قيام (دولة إسرائيل) ظاهرة تاريخية، فبعد 2000 عام من المنفى والعبودية، ها نحن نُمنح جزءاً من أرض إسرائيل، لا شكّ أنّ هذا تعبير عن عناية إلهية».
لقد كانت الأرثوذوكسية اليهودية والحركات التي تمثّلها تدرك أنّها تقع على هامش مشروع الدولة، وبالتالي فَــإنَّ جلّ مطالبها تمثّلت في مطالب تضمن لها الحفاظ على نفسها.
ولم يقتصر الأمر في إسرائيل على هاتين المجموعتين – مجموعة الصهيونيين العلمانيين – وهم الذين أسّسوا الكيان، ونقلوا الفكرة الصهيونية إلى بنية ومؤسّسات ودولة، ومجموعة اليهودية الأرثوذكسية المهمّشة، فقد كان هناك لاعبون آخرون أهمهم تلك المجموعات الدينية التي حاولت الجمع ما بين اليهودية والصهيونية، فشكّلت ما يُعرف بـ (التيار الصهيوني الديني)، وحاولت الجمع بين فعالية الصهيونية العلمانية وبين الالتزام بالعقائد والالتزامات الدينية في الوقت نفسه، وهذا بالنسبة إليها يعني: ضرورة إخراج الدين من سلبيته واتكاله على المشيئة الربّانية، وتخليص الصهيونية العلمانية من إلحادها ومن تنكّرها للدين، ومن ثمّ ركّزت هذه المجموعة على مسألة (الاستيطان) على كُـلّ أرض إسرائيل لدرجة أنّها ميّزت بين توراة أرض إسرائيل، وتوراة خارج أرض إسرائيل، وقدّمت فهماً لتاريخ الحركة الصهيونية، وإنجازاتها لا على أنّهما عمل إلحادي وتدخّل في الشؤون الإلهية، وإنّما؛ باعتبارها فصلاً من فصول الخلاص الديني، وأنّها تقوم بمهمة دينية دون أن تدري، وبهذه الرؤية تصبح الصهيونية نفسها حلقة مهمة في الرواية الدينية، وفصلاً ضرورياً من فصولها، وستكون الخطة النهائية للمشروع الصهيوني محطة دينية حتماً، وقد عزّزت نتائج حرب 5حزيران/يونيو1967 هذه الرؤية..
حيث تم احتلال الضفة وفيها الخليل وما تبقّى من القدس؛ وهو ما زاد من ثقة الصهيونية اليهودية بنفسها، فحاولت منذ ذلك الحين التأثير المباشر في صنع القرار الإسرائيلي، وهكذا بدأت الصهيونية كمشروع دولة تستعمل الدين كوسيلة وبعد ثمانية عقود جاءت المؤسّسة الدينية لتستعمل مؤسّسة الدول نفسها كوسيلة.
ممّا تقدّم، ندرك أنّ الانقسام في المجتمع الإسرائيلي قديم ومصاحب للفكرة الصهيونية من بداياتها، ولكن الكيان استطاع التعايش معه، حَيثُ كان من المستحيل معالجته، ويعود ذلك في الأَسَاس لمؤسّسة الجيش التي أُريد لها أن تكون البوتقة التي تنصهر فيها الخلافات الأيديولوجية والقومية والاجتماعية والثقافية، وقد ساعدت الإنجازات التي حقّقتها هذه المؤسّسة من خلال الحروب التي خاضتها وحسمتها ميدانيًّا مع الجبهات الرسمية العربية في إنجاز هذه المهمة، وكان للدعم الغربي والشرقي دور بارز في منح هذه المؤسّسة الفرصة لتحقيق ذلك لجهة التسليح المتطوّر، ولجهة رفد الكيان بمئات ألوف المهاجرين الجدد لسد الاختلال الديموغرافي الذي يعد خاصرة الاحتلال الرّخوة، وبمقدار ما منحت هذه المؤسّسة الخط العلماني في إسرائيل وهو الخط المؤسّس للكيان قدرة على البقاء في موقع الهيمنة والإدارة للدولة ومؤسّساتها منذ النشأة، إلّا أنّها وبإنجازاتها فتحت الباب واسعاً على تكريس الرموز الدينية، والرواية اليهودية التي تتحدّث عن اليد الإلهية التي كانت تقف وراء هذه الإنجازات، وبتراجع قدرة الجيش، واهتزاز منظومته الأمنية، وعجزها عن مزيد من الإنجازات، وتحطيم هيبته بعد الانسحاب المُذل من جنوب لبنان في أيار/2000 دون قيد أَو شرط، بدأت هيمنة الفريق العلماني في إسرائيل تتراجع، ولم يعد يشفع له ذلك الدور التاريخي المؤسّس، حَيثُ سرعان ما ينسى الناس، وهناك في إسرائيل جيل هو الثالث بعد التأسيس لا يعنيه كَثيراً دور الجيل الأول بقدر ما يعنيه ما يشاهده ويلمسه ويعيشه، فهو يرى جيشاً لم يُحقّق إنجازاً مهمّاً عبر أكثر من عقدين من الزمن، ويعيش معارك في مواجهة مقاومة لا تملك ما يعتد به إذَا ما قورنت بجيشه الذي أُعدّ ليكون متفوقاً على كُـلّ جيوش المنطقة وقادراً على كسرها، ويرى جيشاً غير قادرٍ على التقدّم متراً في أرض العدوّ فضلاً عن الاحتفاظ بهذا المتر، بل ويرى قيادات سياسية وعسكرية تبدو أحياناً مستعدّة لقبول المعادلات التي يفرضها الطرف المقاوم، ويرى مدناً في قلب إسرائيل يُدفن سكانها في الملاجئ مع أول صافرة إنذار، وتتعطّل فيها الحياة، وتغلق أجواؤها ومطاراتها… إلخ.
وهكذا فَــإنَّ الإسرائيلي في المستوطنة الكبيرة المسمّاة (إسرائيل) لم يعد يثق في جيشه ولا في قيادته الرّاهنة التي لا تمثّل امتداداً للجيل الأول من المؤسّسين، ولذا فمن الطبيعي أن يبحث عن قيادة جديدة قادرة على استنهاض وترميم قدرته الردعية، وبعث مقولاته الدينية المثبّتة والجاذبة، حَيثُ لم يعد هناك دوافع خارجية تستوجب الامتثال لنداء الهجرة إلى «إسرائيل» لا على الصعيد الأمني اليهودي، ولا على الصعيد الاقتصادي..
ولم تعد (إسرائيل) بوضعها الراهن تمثّل لليهود مركز جذب على هذين الصعيدين..
وعليه فلم يبق إلّا الصهيونية الدينية كملاذ أخير للكيان؛ كي يستمر في الحياة من خلال هدف أُسطوري ديني بعد فشل العلمانية في توفير الحياة التي وعدتها لليهود في فلسطين، وكيف أنّها أرض «اللبن والعسل» وَ«أرض بلا شعب».
صحيح أنّ الاتّجاه العلماني في إسرائيل يُعد الأقرب والأكثر انسجاماً مع الثقافة الغربية التي انتجته، وهو بالتالي الأقدر على بناء العلاقات، والحفاظ على مصالح هذا الغرب، واللقاء معه فيما يحلو لهم تسميته «القيم المشتركة»، واعتبار إسرائيل الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، وهي بهذا تُعد الأكثر شبهاً بالنموذج الديموقراطي الغربي.. كُـلّ هذا صحيح، وكلّه يدعو الغرب (أُورُوبا وأمريكا) وحتى روسيا للحفاظ على مشروعهم الذي يُسمّى «إسرائيل» وعدم السماح بتفككه وانهياره، وهذا يستدعي تدخّلاً للحد من تفاقم أزمة الكيان البنيوية التي تهدّد هُــوِيَّته ويمكن أن تأخذه إلى انقسام غير مضمون النتائج، ولا يستطيع الغرب أن يضبطه، ممّا يعني فقدان الكيان لدوره ومهمّته الوظيفية تجاه اليهود وفي المنطقة..
وعلى هذا فَــإنَّ الغرب إذَا أيقن بأنّ التوجّـه الصهيوني الديني قادرٌ على تأمين الكيان بالقدر الذي يحافظ عليه كمشروع غربي في المنطقة، فَــإنَّه لا مانع لديه من أن يتعامل مع هذا التوجّـه رغم الاحراجات التي يمكن أن يسبّبها له لدى أصدقائه وحلفائه في المنطقة، خَاصَّة أنّ المشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة يبدو متعثّراً وعاجزاً نظراً للمقاومة التي تبديها قوى الأُمَّــة الحيّة تجاهه، ورغم ظاهرة التطبيع الرسمي التي قدّمت خدمة مجانية للكيان في وقت ظهر فيه عاجزاً ومتردّداً أمام المقاومة..
إنّ ما يجري اليوم في (إسرائيل) لا يعبّر عن حراك ديموقراطي لمجتمع محكوم للديموقراطية كما يتوهّم البعض ويضعونه في خانة حرية التعبير، ولا يفسّر على أنّه صراع شخصي على منصب هنا أَو هناك، ولا لأجل أزمة يعيشها رئيس وزراء الكيان ويريد أن يحلّها ولو على حساب الدولة برمّتها.. فلا هذا ولا ذاك يفسّر ويشرح ما يجري في (إسرائيل) بل الأمر يتجاوز كُـلّ هذا، إنّه الصراع بين القديم العلماني والأقدم الديني على هُــوِيَّة هذا الكيان، تلك الهُــوِيَّة التي باتت محل جدل ونقاش حاد، وفشل الكيان بعد خمسٍ وسبعين سنة في تحديدها، إضافة إلى وجود نزعات عِرقية تشعر بالاستبعاد والتهميش بل والنبذ..
إنّ هناك انقساماً حاداً في المجتمع الإسرائيلي بين اتّجاهين يزداد التناقض بينهما كُـلّ يوم، ليس على مستوى السياسة فقط، وإنّما وهو الأهم على مستوى الأيديولوجيا بين إسرائيل النموذج الغربي العلماني وإسرائيل النموذج اليهودي المتصهّين الذي ظلّ مهادناً للنموذج الأول طوال عمر الحركة الصهيونية من الفكرة إلى التأسيس إلى الكيان، ويعتقد أنّه جاء الوقت الذي تنقلب فيه هذه المهادنة بعد أن بات تغييرها أكثر ضرورة لجهة استكمال المشروع الصهيوني في فلسطين وُصُـولاً إلى السيطرة على الأردن كجزء من دولة إسرائيل، تمهيداً لحل المعضلة الديموغرافية المتمثّلة في الوجود الفلسطيني غرب النهر، هذا الوجود الذي يستحيل معه وجود «الدولة اليهودية» الصرفة التي يؤمن بها هؤلاء، ويروّجون لها ويمارسون مقدّماتها من خلال إكمال الاستيطان في الضفة والسيطرة الكاملة على القدس، والهيمنة على مؤسّسة الجيش والأمن والميليشيات المستحدثة كالحرس الوطني وشبيبة التلال، وإخضاع القضاء بما يمكّنهم من إحكام قبضتهم على الدولة، والنظر إلى الشرق العربي وإخضاعه لسيطرتهم؛ استكمالاً لمشروعهم الصهيوني الكبير.. إن استطاعوا.
* كاتب وباحث فلسطيني
التعليقات مغلقة.