مديرية “ساقين” في صعدة.. آثار ومعالم تاريخية لعصور متلاحقة تحكي فصولاً من تاريخ اليمن القديم
تعد مديرية ساقين إحدى مديريات القاطع الغربي لمحافظة صعدة حيث تتوزع مناطقها في قمم وسفوح الجبال الشاهقة والأودية الخصبة مشكلة قرى كبيرة وتجمعات سكانية واسعة.
وتحدها من الشرق مديرية سحار ومن الشمال مديرية مجز ومن الجنوب مديرية حيدان وتطل من الجهة الغربية على السهول التهامية في مديرية الظاهر المعروفة بـ(مديرية الملاحيظ) وتضم ساقين عدداً من المناطق منها (بني بحر, شعب حي, خميس المحور, مدينة ساقين, جبل عرو, جبل النوعة, بني سعد, بني واس, وادي الحبال, وادي خير, الخوالد, الشرف).
وتسكن ساقين فروع من القبائل الخولانية التي يعود نسبها إلى خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة من حمير حيث استوطنت هذه القبائل المرتفعات الغربية لمحافظة صعدة بعد رحيلها من مأرب إثر تهدم سد مأرب فيما استقرت بعضها في جنوب وشرق صنعاء وتعتبر مديرية ساقين من المديريات الغنية بخيراتها ومواردها وخصوبة أرضها وغنية في مآثرها وتاريخها القديم الذي نسجته خيوط الزمن وأحداث القرون الماضية وما زالت شواهده وآثاره باقية إلى اليوم.
تبعد مديرية ساقين قرابة 30كم عن مدينة صعدة غربا وترتبط بخط إسفلت (صعدة- الملاحيظ) الذي يمر من قلب المديرية وعدد من المناطق والعزل.
وتقع مدينة ساقين مركز المديرية في أقصى الشرق وهي مدينة إسلامية قديمة نشأت بين القرنين السابع والثامن الهجري في زمن الدويلات المستقلة وهي مدينة متواضعة مشيدة من الطين (اللبن) تسكنها عدد من الأسر القديمة لكنها بمآثرها الكثيرة والمتعددة تعكس حضوراً عبر قرون مضت ما زالت شواهدها وآثارها حتى اليوم حيث يوجد في المدينة ثلاثة مساجد قديمة متجاورة أهمها جامع الإمام الداعي الذي شيده الداعي يحيى بن المحسن بن محفوظ في القرن السابع الهجري.
وتحيط بالمدينة عدد من القلاع والحصون الحميرية والإسلامية حيث يوجد حصن “المنمار الجاهلي” على قمة جبل المنمار وبه بنايات وبقايا عمران قديم شرق المدينة ويتصل بجبل الجوة الذي يقع في هامته حصن الجوة وعند أسفل الجبل قلعتي الدامع والقفل اللتان شكلتا مقراً للعمال على مخلاف صعدة حيث ظلت ساقين مقراً لناظرة بلاد الشام أي بمثابة محافظة المحافظة حتى نهاية القرن الثالث عشر هجري وفي شرق المدينة توجد آثار سد ساقين القديم الذي تم هدمه في 200هـ.
ويوجد بالمدينة مقبرة إسلامية قديمة تحكي ألواحها الحجرية “الشواهد” انتساب بعض الأسر القديمة إلى الصحابي الفارس والشاعر عمرو بن معد كرب الزبيدي وبالرغم من أن هذه الشواهد الحجرية المصنوعة من أحجار البلق البيضاء موغلة في القدم إلا أنها ما زالت تحتفظ بكتاباتها ومضامينها حتى اليوم وعن جنوب المدينة يوجد وادٍ خصيب يمتد إلى قرية القيف تليه منحدرات جبلية إلى المناطق المجاورة.
وترجح مصادر تاريخية أن المدينة كانت تسمى “قين” في العصر الجاهلي واكتسبت أسم ساقين من لهجة السكان مع مرور الوقت حيث يقول الذاهب إلى المدينة “أغدوا ساقين” حيث تحل كلمة “سا” بدلاً عن “إلى” حرف الجر فغلب على أسمها ساقين.
وعن جنوب ساقين قرابة 10كم يصل المرء إلى منطقة خميس المحور وكان عبارة عن سوق من أسواق المديرية موعدة يوم الخميس أسبوعيا لكن موقعه في قلب تجمعات سكانية وقرى كثيرة تحيط به من كل الاتجاهات جعلت التوسع العمراني يمتد صوب هذا السوق الواقع على الخط الإسفلتي ليخلق حياة وانتعاشاً للسوق الذي أوشك أن يتحول بفعل امتدادات العمران المجاورة إلى مدينة كبيرة عامرة وسوق تجارية منتعشة تحل بدلا عن ساقين مركز المديرية.
ويتصل خميس المحور جنوبا مع الخوالد والشرف وأوطان شعب حي في أكثر المناطق خصوبة وكثافة سكانية وأكثر المناطق الأثرية تنوعا حيث تمتد المنارات الحجرية العالية الدائرية الشكل على طول وامتداد القمم الجبلية الشاهقة للوادي الذي يقطعه حمر جبلي لمياه السيول وفي إحدى هذه القمم الجبلية شيد في العصر الحميري قصر تفراع القديم.
وكانت هذه المنارات تستخدم في العصر الحميري وما تلاه لأغراض حربية وما زالت عدد من قرى المنطقة تحمل أسماء حميرية قديمة حتى اليوم كـ”تي قرهد تي” مدارة ثمامة وسحة.. إلخ.
وهذه المنطقة أثرية وتاريخية من الطراز الأول توشك جبالها وأوديتها أن تتكلم بلسان التاريخ حيث تعد شعب حي قبيلة شهيرة من قفاعة ثم من خولان عامر بل تكاد تكون الأشهر ومنهم طائفة هاجروا إلى سعيد مصر قبل الإسلام على يد المغرق الأكبر بسبب حروبهم مع أبناء عمومتهم.
كما كانت قبيلة شهب حي ضمن القبائل الخولانية التي افترقت في الفتوحات الإسلامية في 15هـ فنزل الكثير منهم في الشام ومصر والأندلس وبرز عدد من القادة والشعراء منهم في طليعتهم القائد الإسلامي الشهير السمح بن مالك الحياوي الخولاني الذي وصلت طلائع قواته إلى جنوب فرنسا في عهد الدولة الأموية.
وتضم أوطان شعب حي في مديرية ساقين كثيراً من القرى والأماكن التاريخية والأثرية منها قرية ثمامة وفيها مسجد تاريخي قديم أقيم على أنقاض “معبد الآه” في دارلاه كذلك واحد من أكبر الكهوف الحميرية الذي أشيع أن به كنوزاً قديمة وأنفاقاً تحت الأرض.
وكان في ثمامة “صنم” قديم، ظلّ حتى وقت قريب وجرفته السيول قبل سنوات، كانت تعبده القبائل الخولانية قبل الإسلام.
وفي شعب حي “قرية وسحة” كانت لـ”بني بشر” و”بني يعنق” – وهم الأديم من “خولان” وهي قرية جاهلية في “شعف جبال خولان” أرسلت زكاتها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في 11هـ وكانت زكاة طيبة فسأل الرسول أصحابها زكاة من هذه فقالوا إنها زكاة وسخة من “خولان” فقال ليست وسخة وهذه زكاتها ولكنها “وسحة” فسميت بذلك الاسم حتى اليوم.
وتعد كلمة “شعب” من المفردات العربية الجنوبية لتسمية القبيلة وتعني أكثر من تجمع بشري وهي مجموعة من العشائر الموحدة.
ويطلق على مناطق شعب حي اسم الشعف أي الجبل حيث تمثل أعلى مناطق خولان عامرة، ويوجد بها عدد من الأودية الزراعية الخصبة التي تزرع فيها الحبوب والبن، وتتوفر فيها مياه الري، لكن أشجار القات وتنامي زراعتها بفعل عائداتها المالية تحد من نطاق زراعة البن والحبوب بصورة مضطردة بمرور الوقت.
أودية خصبة وشواهد أثرية
عندما ينزل المرء من الشغف باتجاه الغرب يقف على واحد من أروع المناظر الطبيعية الخلابة لواحد من أجمل وأروع الأودية الزراعية الخصبة إنه “وادي خوط”.
بساط سندسي أخضر يمتد من الشمال باتجاه الجنوب على نطاق كبير تتناثر في أحضانه القرى والتجمعات السكانية والدور القديمة العالية وتلف الوادي الخصب الغيوم غالبية الأيام لترسم لوحة خيالية وصحائف لجين على سندس أخضر، وقد تبدت أعلى المنازل والدور، وقد نثرت في سطوحها محاصيل البن بألوانها الحمراء الداكنة.
ويعد هذا الوادي من أخصب أودية ساقين ويحصل الأهالي على مردودات مالية كبيرة من الزراعة حتى بات يطلق عليه “وادي الخليج العربي”.
ويرتبط بعدة أودية ومدرجات زراعية منها وادي “الممجع” والوقيشين “وبني سعد أو جبل السعدي”، وفي أقصى الشمال منه سوق الفجار وهو سوق أسبوعي يفصله عن وادي خير – وهو واد خصيب يرتبط بمنطقة “عرو”، وهي منطقة جبلية شديدة البرد.
ويطلق على هذه الأودية والتجمعات السكانية اسم “بني بحر”، وهي بطن من خولان عامر، بها حصن قديم يطلق عليه حصن “عراض”، وفيه دارت معركة بين جيوش الأمير يعفر بن عبدالرحيم الحوالي وبني بحر في أوائل القرن الثالث الهجري حسبما قال المؤرخ الأكوع.
وقد وردت “بني بحر” ضمن التقسيمات الرئيسية لخولان عامر بن قضاعة في النقوش الأثرية القديمة باسم “ب.ح.ر.م” حسب ما ذكره المستشرق الفرنسي “كريستيان روبان” في بحثه حول انتشار العرب البداة في اليمن.
ومن المرجح أن هذه المنطقة شكلت أول مواطن استقرار القبائل الخولانية فيها وقد تم العثور في 1993م على أعمدة مستطيلة منقوشة بخط حميري قديمة كتب عليها بالمسند “حيدان” يصل طولها بين 1- 1.5 متر تآكلت بعض نقوشها، وكسرت بعض الأعمدة، وكانت هذه الأعمدة جزءاً من معبد قديم مطمور في جبل “عرو”، وقد زارت لجنة من هيئة الآثار الموقع وأكدت حاجة المنطقة إلى مسح أثري شامل وبعض التنقيبات.
التعليقات مغلقة.