معرفة الله ـ نعم الله ـ الدرس الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
الموضوع هو امتداد للعنوان السابق: معرفة الله سبحانه وتعالى.
وكما أسلفنا في الدروس السابقة بأن من أهم المجالات، أو من أهم الوسائل لمعرفة الله سبحانه وتعالى هو تذكر نعمه، نعمه الكثيرة، نعمة الهداية بكتابه الكريم وبالرسول (صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين) وهي أعظم النعم، والنعم الأخرى، النعم المادية، وهي كثيرة جداً كما قال الله سبحانه وتعالى عن نعمه بصورة عامة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}(النحل: من الآية18).
نحن ذكرنا سابقاً ما يتعلق بالنعم المادية، وهي أخذت مساحة واسعة في القرآن الكريم، وهي كثيرة جداً، هي كل ما يتقلب فيه الناس في حياتهم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل: من الآية53) ونعمة الهداية التي هي أعظم النعم، الهداية إلى الإيمان، هذا الدين العظيم دين الإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}(المائدة: من الآية3) فهذا هو الفضل العظيم من الله، هو ذكر فيه بأنه قد أتم النعمة، نعمة تامة ليس فيها نقص، لا تحتاج إلى من يكملها {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} هذه النعمة ما أوجب شكر الله سبحانه وتعالى علينا في مقابلها!.
ويقول سبحانه وتعالى بالنسبة لنبيه محمد (صلوات الله عليه وعلى آله): {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164) أليست هذه نعمة كبيرة؟. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ولقد كانوا فعلاً قبل هذه النعمة العظيمة، نعمة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) الذي يقوم بهذه المهمة في إبلاغ دين الله فيتلو على الأمة آيات الله، ويزكي أنفسهم، ويعلمهم كتابه، ويعلمهم الحكمة، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة: من الآية16) كما قال في آيات أخرى.
ويقول سبحانه وتعالى عن نعمة القرآن الكريم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(ابراهيم:1) أليست هذه نعمة كبيرة؟. {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. ويقول أيضاً في كتابه الكريم عن القرآن الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر:23) فسمى كتابه الكريم بأنه أحسن الحديث، متشابهاً في حكمته، في فوائده، في عظمة آياته، في تفصيل آياته، فيما تشتمل عليه من فوائد كثيرة، في عظمة معانيها، في تفصيلها، في إحكامها.
مثاني: تتكرر فيه المواعظ، يتكرر فيه الحديث عن المبادئ المهمة والقيم المهمة، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم لشدة وقعه على أنفسهم, ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. هذا هو بالتحديد ما يصنعه القرآن الكريم في من يفهمون القرآن الكريم، وفي من يعرفون عظمته وأهميته، ويعرفون أنه أعظم نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده؛ ولهذا قال بعد: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} ويقولون بأن {ذَلِكَ} تستخدم أيضاً للتعظيم، كما أن اسم الإشارة للبعيد يشار بها أيضاً إلى الرفيع الدرجة، البعد المعنوي في درجات العظمة.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} من ضل بعد هذا الهدى، بعد هدى الله، هذا الهدى الذي هو القرآن الكريم، والنبي العظيم (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) فما له من هاد، لن يكون هناك من يهديه إطلاقاً.
هذا فيما يتعلق بنعمة الهداية، ولكن لما كانت نعمة قد يكون كثير من الناس لا يلمس قيمتها، لا يدرك قيمتها، وإلا فهي من أعظم النعم؛ لأن الله قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (الحجرات:17).
هو الذي له المنة علينا أن هدانا للإيمان، والنعم الأخرى وهي تشمل جميع مجالات الحياة، ونعم أخرى تبرز في مواقف الناس المتعددة في ميادين العمل، من التأييد بالنصر، من الدفاع عن المؤمنين. إذا تأمل الإنسان القرآن الكريم وهو يعدد النعم الكثيرة على الناس ليست فقط هذه المادية التي نحن نتقلب فيها مما بين أيدينا من النعم المختلفة، بل هي نعمة أيضاً يجدها المؤمنون وهم في ميادين العمل، في ميادين نصر دين الله، والعمل لإعلاء كلمة الله.
الله سبحانه وتعالى أكد في كتابه الكريم لعباده أن عليهم أن يذكروا نعمه, أن يتذكروا نعمه، أن يشكروا نعمته في آيات كثيرة، والقرآن الكريم متى ما كرر شيئاً، متى ما أكد على شيء فإنه فعلاً ليس كلام لمجرد الكلام، أو لتستقيم السجعة كما يعمل الناس، أو ليستقيم وزن البيت الشعري كما يعمل الشعراء، وإنما يكرر الشيء لأهميته، وكل شيء هام باعتبار أنه تمس الحاجة إليه بالنسبة لنا، وفي مجال علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، وفيما يتعلق بحياتنا، فيما يتعلق بالتعامل مع بعضنا البعض، فيما يتعلق بأعمال المؤمنين في مجال نشر دين الله وإعلاء كلمته، وفي ميادين المواجهة مع أعداء الإسلام.
من العجيب أن تجد آية تحكي، عندما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(الأعراف: من الآية144) يقول لنبيه موسى وهو ذلك الرجل العظيم الذي قطع على نفسه عهداً {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص: من الآية17) من أجمل ما قاله الأنبياء جميعاً, هذه الكلمة التي قالها موسى (صلوات الله عليه)، من أجمل وأعمق الكلمات التي قالها الأنبياء فيما تدل عليه من مشاعر الإرتباط القوي بالله سبحانه وتعالى، وإدراك عظم النعمة التي أنعم الله بها عليه، وقد كان ذلك قبل النبوة. ما هي هذه النعمة؟. قد يكون أكثر ما نلمسه في هذا الجانب هو أنه توفق إلى أن يقف موقف حق، وأن يعلن كلمة حق، وأن يقارع الظالمين.
الآية هذه جاءت بعد قصة قتل القبطي الذي من قوم فرعون {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} لن أكون مساعداً، لن أكون معيناً للمجرمين طيلة حياتي، وفعلاً صدق، يقول الله له وهو من هو في إدراكه لنعم الله، وفي وقعها العظيم على نفسه يقول الله عندما أخبره بأنه قد اصطفاه برسالته وبكلامه وأنزل إليه التوراة {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}كن من الشاكرين لهذه النعمة، كما قال لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) محمد {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}(النساء: من الآية113) وقال لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) محمد بن عبد الله وهو سيد الأنبياء والمرسلين: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:66) كن من الشاكرين، وهل تظنون بأن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان يتوفر له من الطعام والشراب كما يتوفر لأحدنا يأكل كل يوم خبز البر، ويأكل اللحم، ويأكل مختلف أنواع الأطعمة.
نعمة الهداية التي هي تتلخص في كلمة: إخراج من الظلمات إلى النور، بكل ما تعنيه الظلمة في الجانب الأخلاقي، في الجانب المادي، في الجانب المعنوي، وبما تعنيه كلمة النور، النور في النفس، النور في القلب، النور في الحياة، النور في القيم، لكننا نحن البسطاء قد يكون الكثير منا لا يدرك أهمية وعظمة هذه النعمة، نعمة الهداية، لا نكاد نعترف بأن النعمة الحقيقية إلا هذه النعم التي نلمسها: أموال, ماديات الحياة هي هذه، ولكن حتى هذه التي نحن نتقلب فيها طيلة أعمارنا، كل ما تتحرك فيه خلال الأربع والعشرين ساعة من النعم العظيمة هي من الله، ولكن حتى هذا على الرغم من أننا نلمسها وندرك حاجتنا الماسة إليها لا نكاد نتذكرها بأنها نعمة من الله، ولا نكاد نتذكر أنه يجب علينا أن نشكره عليها، وأن نستشعر عظم إحسانه إلينا بها، فنحبه ونتولاه، ونشكره ونعبِّد أنفسنا له، إن الإنسان لظلوم كفار.
لهذا تجد الحديث في القرآن الكريم عن النعم المادية واسع جداً، والحديث عن النعم المعنوية، نعمة الهداية، نعمة إنزال الكتاب، نعمة الرسول، تجدها قليلاً، لكنها تتوجه إلى أصحابها كما يقول لأنبيائه هنا: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(الأعراف: من الآية144) يقول لمحمد (صلوات الله عليه وعلى آله) ويقول لموسى؛ لأننا نحن البسطاء لا نزال نحتاج إلى نقلة، أن نستشعر أن ما بين أيدينا هو من الله، ونعترف بأنه نعمة، ثم يتوفر لنا ما يعطيه هذا التذكر من المعاني العظيمة، ولو بعض منها فيكون من حصل منا على هذا الشيء يعتبر أنه قد حصل على مكسب كبير، أنه قد تذكر نعم الله عليه أو جانباً منها وعرف بعضاً من الفوائد المعنوية التي تتركها في نفسه.
فمتى يصل الإنسان؟ متى يصل الإنسان؟؟ وبأي وسيلة يمكن أن يصل إلى أن يفهم القيمة العظيمة لنعمة الهداية؟.
فعلاً أنا لا ألوم الناس، عوام الناس المساكين؛ لأن الدين لم يقدم لنا ديناً متكاملاً على أيدي الكثير من المتحدثين باسمه، يعرفوننا جوانب معينة ويتركون الكثير مما نحن بحاجة إلى معرفته؛ لأن ثقافتهم تركزت على ما يتعلق بأحكام شرعية. إذاً فالعامي هذا قد نعرِّفه ما يتعلق بكيف يتوضأ، ويغتسل، ويصلي، ويزكي، ونوع من العبادات والمعاملات هذه، وهذا هو الدين!.
لم نعرف كم أعطى الدين من اهتمام كبير بنا في كل مجالات حياتنا، لم نعرف عظم هذا الدين باعتبار ما فيه، ما يتمثل فيه من رعاية إلهية عظيمة بنا، فنراه هنا لجانب من شؤون الحياة، والتي هي أكثر ما يشغلنا وتشغل أكثر مساحة من ذهنيتنا هناك في جانب آخر.
لهذا تجد الناس عندما تذكرهم بأن الإسلام نعمة عظيمة يجب علينا أن نشكرها، سيجامل، يقول: [الحمد لله فعلاً نعمة عظيمة، نعمة عظيمة، الإسلام نعمة عظيمة]، ولكن تعال تعاون في سبيل الإسلام، يقول: [والله ما معي إلا قليل فلوس محتاج كذا وأعمل كذا.. الخ]، هو لا يتعاون في شيء وإن كان لديه أموال كثيرة, الإسلام هذا هو بحاجتك أن تتحرك في سبيله فتدافع عنه وأن تعمل على إعلاء كلمته، لا يتفاعل كثيراً، لماذا؟ لأننا لم نعرف بعد عظمة الإسلام.
أولئك البدو الذين جاءوا إلى رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وأسلموا وظنوا بأنهم قد قدموا خدمة كبيرة لمحمد ولإله محمد أنهم أسلموا!، فقال الله عنهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا}(الحجرات: من الآية17)، ظنوا أنهم قد قدموا [وحدة كبيرة لمحمد]، يعني نعمة عظيمة من جانبهم قدموها لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يجب عليه أن يشكرهم كلما يلقاهم، {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ}(الحجرات: من الآية17) افهموا، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}(الحجرات: من الآية17) فكم هي نعمته العظيمة عليكم بأنه هداكم للإيمان.
هذا فيما أعتقد هو عامل من عوامل قلة تفاعلنا مع الإسلام، مع القرآن الكريم، مع الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، حتى أصبحت القضية بلغت درجة أنه قد لا يكون إلا في النادر، في النادر من يغضب فينا لله إذا عُصي، من يحب في الله، من يبغض في الله، من يوالي في الله، من يعادي في الله، وهكـذا لاحـظ كلمة بعيدة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(التوبة: من الآية111) من منا الذي سيبيع نفسه وماله؟، نحن نراها بعيدة هناك، من هو هذا المجنون الذي سيبيع نفسه وماله!.
لكن لا، من يعرف الله سبحانه وتعالى، من يعرف الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله), من يعرف القرآن الكريم، من يعرف هذا الدين، عظمة هذا الدين، سيرى بأنه قليل أن يقدم في سبيله أن يبذل نفسه وماله، ومن لا يعرف إلا مجرد عناوين، لا يقدم حتى ولا القليل من ماله، ولا الجهد البسيط من أعماله، لا يبذل شيئاً من هذا.
وستظل القضية هكذا في ما أتصور، ونمشي جيل بعد جيل، إذا لم نحاول أن نتعرف على هذه النعمة العظيمة التي نحن فيها، نعمة الهداية، أننا مؤمنون بالله، أننا مؤمنون برسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، أننا مؤمنون بكتابه الكريم، أننا مؤمنون بهذا الدين العظيم، دين الإسلام، يضاف إلى ذلك بالنسبة لنا نحن شيعة أهل البيت أننا متمسكون، أو نؤمن بالتمسك بالثقلين: كتاب الله، وعترة نبيه (صلوات الله عليه وعلى آله)، وأننا نؤمن أن عقائدنا التي نؤمن بها صحيحة، هذه نعمة أعتقد نعمة عظيمة علينا نحن الشيعة أكثر من غيرنا، من يعرف ما يتخبط فيه الآخرون من الضلال سيجد أنه في نعمة عظيمة يجب عليه أن يشكر الله عليها، كلما يتذكر يشكر الله عليها باستمرار {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} فإذا ما وجدنا أنفسنا فعلاً، من هدانا الله للإيمان، ما نحن مؤمنون به هو حق، ما نحن نعتقده هو حق، إذاً فنعمة الله علينا أعظم، والمسؤولية التي ستتبعها علينا أكبر، والحق علينا أوجب.
كم تحدثنا في الجلسات السابقة، في دروس متعددة حول كثير من الإشكاليات التي لدى الآخرين، والتي تعتبر من الضلال الرهيب لديهم، والتي نحن بحمد الله بمعزل عنها، نحن بمعزل عنها بحمد الله.
إذا كان الله سبحانه وتعالى يذكِّر عباده بأن عليهم أن يذكروا نعمه فنحن الزيدية، نحن شيعة أهل البيت من يجب علينا أن نتذكر أكثر فأكثر هذه النعم، ندع ذلك التذكر يترك آثاره المهمة العظيمة في نفوسنا, ننطلق – من واقع حبنا لله وإيماننا الواعي به، واستشعار وجوب الشكر له على نعمه – ننطلق بكل ما نستطيع في مجال الحصول على رضاه؛ لأن من أعظم ما تتركه النعم من آثار في النفوس هو أنها تدفعك إلى تولي الله سبحانه وتعالى وإلى حبه، كيف لا أحب من أراه يرعاني؟. من أرى كل ما بين يدي مما أملك، ومما لا أملك من نعمته العظيمة الواسعة، من أرى أن هذا الدين الحق الذي أنا عليه هو الذي هداني إليه؛ فأتولاه، وأحبه وأعظمه وأجله، وأسبحه، وأقدسه، وأخشاه، وهذه المعاني عظيمة الأثر في النفوس فيما تمثله من دوافع نحو العمل في ميادين العمل.
أليس الموضوع من بدايته هو حول أن نعرف كيف نتولى الله سبحانه وتعالى؟ كيف نتولاه؟ إذا عرفت وتذكرت عظيم نعمته عليك سترى بأنه هو وحده من يجدر بك أن تتولاه، وأن لا تتولى غيره، فكل أولياء تبحث عنهم دون الله سبحانه وتعالى من أولئك البعيدين عن هدايته وصراطه، الله قد ضرب لهم مثلاً {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}(العنكبوت: من الآية41) كلهم وهميون، ما يدفعك نحو توليهم؟. أنك تبحث عن العزة، أو تبحث عن القوة، أو تبحث عن الرزق، أو تبحث عن أي شيء من المطامع؟ فاعلم بأنك كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتاً، تعمل في البيت وتمد الخيط من هنا إلى هنا وتعمل النسيج الذي هو أوهى الأنسجة، بيت لا يدفع عدواً، ولا يدفع برداً، ولا يدفع حراً، ولا يعمل شيئاً، أحياناً ترجع فقط تستغله في الأخير ليكون شبكة صيد.. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}، لكن الله عندما تتولاه تتولى القوي العزيز، تتولى من أنت تحظى برعايته، من هو على كل شيء قدير.
لن تترسخ في أنفسنا معرفة الله سبحانه وتعالى، ولن نصل إلى درجة أن نكون من أوليائه حقاً إلا إذا كنا ممن يتذكر نعمه علينا، نعمة الهداية، والنعم الأخرى التي نملكها والتي لا نملكها مما نحن جميعاً نتقلب فيها؛ لهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر:3) إلى أين تتجهون؟ وإلى أين ستنصرفون؟ تبحثون عن من؟. تبحثون عن أمريكا، تبحثون عن بريطانيا، تبحثون عن هذا الرئيس، عن هذا الملك، عن هذا الزعيم، عن هذا التاجر، هل هناك أحد يملك لكم رزقاً؟. يملك لكم ضراً؟. يملك لكم نفعاً؟. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} إلى أين أنتم رائحين؟!. تنصرفون عن إلهكم الذي أنعم عليكم الذي يرزقكم من السماء والأرض والذي هو وحده الإله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
كل هذه المعاني الهامة التي تخلق في نفسك متى ما وعيتها دافعاً قوياً نحو تولي الله سبحانه وتعالى هي تبدأ بتذكر نعمه {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} متى ما ذكرت نعمته عليك عرفت بأنه هو وحده الخالق، هو من يرزق من السماء والأرض، هو الذي لا إله إلا هو، إذاً فلن أنصرف إلى هذا ولا إلى هذا، سأتولاه هو.
يقول أيضاً سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}(الزخرف:12) السفن والأنعام من الإبل والخيل والبغال والحمير ما تركبون {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (الزخرف:13- 14).
لأهمية تذكر النعم يريد منك أن تتذكر نعمته عليك حتى عندما تستوي على ظهر حمارك لتركبه، وافهم أنك أنت الحيوان الوحيد الذي يسخر حيواناً آخر ليركبه فينقله إلى مسافات بعيدة. هل هناك حيوانات أخرى يسخر لها حيوانات أخرى تركبها؟. كل واحد يمشي على رجليه، لكن الإنسان هو وحده يسخر الله له مخلوقات هي أقوى منه، بل هي أزكى وأعظم من كثير من أفراده الذين قال عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}(الفرقان: من الآية44). حيوان يقوده الطفل، يركب عليه طفلك وهو فيما لو توحش لأزعج سوقاً بأكمله، الجمال، الخيل، البغال، الحمير، البقر، كم سخر للإنسان من حيوانات أخرى!.
تعال إلى حيوان آخر ليس مسخراً لك تحاول تركبه، امسك [النمر] أليس أصغر من الحمار؟ حاول تركب النمر هو يحاول يأكلك ما هو حول يتركك تركبه، لكن الجمل، الثور، أليست هذه الحيوانات هي أكبر منا وأثقل وزناً وأقوى في أبدانها؟. أليست أقوى منا بكثير؟. من الذي سخرها؟ هو الله تكريماً لك، رحمة بك، رعاية لك، لكي تحمل أثقالك عليها، ولكي تحمل نفسك عليها فتنتقل من هنا، إلى هناك، إلى هناك لمسافات بعيدة فتذكَّر نعمة الله عليك.
ثم عندما يقول: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} يقصد أن تركب بارتياح، جلسة مريحة، لا يخلق لنا حيوانات يكون التنقل عليها متعباً {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ – تذكروا نعمة ربكم – إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} عندما تتذكر بأن الله هيأ ظهور الخيل، وظهور الإبل، وظهور الحمير، بالشكل الذي يتلاءم معك لتستوي وأنت راكب عليه، في وضعية طبيعية، لو أنه سخر حيواناً آخر لا يمكن أن ينقلك من منطقة إلى منطقة إلا وأنت متعلق في رقب الجمل, وضعية متعبة هذه. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}، ويحس بك أنك فوق ظهره فلا ينزعج، بل ربما قد تكون بعض الحيوانات تألف صاحبها حتى ترتاح عندما تحس بأنه فوق ظهرها، فتنطلق وتشعر بالطمأنينة، وهو مستقر فوق ظهرها. إذاً فاذكروا نعمة ربكم حتى عندما تستووا على ظهورها، وقولوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}(الزخرف: من الآية13) ما كان باستطاعتنا أن نسخره لأنفسنا، وأن نتغلب على وحشيته فنقهره ونطوعه لحاجتنا.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(البقرة: من الآية231) {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(آل عمران: من الآية103) {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية103) هذه هي من النعم، إنزال الكتاب بما فيه من حكمة، بما فيه من مواعظ، هي نعمة عظيمة.
كـذلك يقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} هـذه الآية جـاءت بعـد قوله تعالى آمـراً لعباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (آل عمران:103) كنتم قد أشرفتم على السقوط في جهنم فأنقذكم منها، بهدايته، بالرسول العظيم الذي بعثه إليكم، بالكتاب الكريم الذي أنزله إليكم، برعايته، بلطفه، برحمته، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.. فاذكروا نعمته لتهتدوا في الأخير إلى ما يريد الله سبحانه وتعالى أن تهتدوا إليه.
في هذه الآية.. لاحظوا كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتذكر كيف كانت وضعيتنا السابقة، هكذا يقول لأولئك الذين نزلت الآية تحكي واقعاً كانوا عليه، ثم تحول بإذن الله وبأمره وبنعمته إلى واقع آخر، يوم كانوا أعداء يخرجون بين الحين والآخر ليقتتلوا خارج المدينة، عداوة كانت بين الأوس والخزرج شديدة، عندما هاجر الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) إليهم، وعندما استقر وضعه هناك بين أظهرهم وهيأهم ليكونوا هم أنصار دينه ليكونوا هم جند الله.. جاءت الألطاف الإلهية جاء التدخل الإلهي فألف بين تلك القلوب التي كانت ممتلئة بالعداء بالعداوة والبغضاء لبعضها بعض، كما حكى في آية أخرى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(الأنفال: من الآية63) هذه فيها عبرة عظيمة لنا، وعبرة عظيمة لكل من ينطلق في إرشاد الناس ويتوجه نحو الأخلاقيات: [يجب علينا أن نحب بعضنا بعض، وأن نتآخى، وأن نكظم الغيظ، وأن نعفو، وأن.. وأن..] إلى آخره.
افهم، ولنفهم جميعاً أن كل شيء سيكون مجرد كـلام إذا لم نحقق المفتاح، إذا لم نحمل الهم الكبير في أن نكون من أنصـار دين الله سبحانه وتعالى، فهو هـو الـذي سيوفقنا، ويؤلف بين قلوبنا، ويملأها حبـاً لبعضها بعض.
كم أرشدنا، كم وعظنا نحن وغيرنا وتكلمنا كثيرا عن المحبة، وكم قرأ الناس الحديث عن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله): ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) كم دعي الناس إلى حسن التعامل فيما بينهم، وإلى الإنصاف من أنفسهم، وإلى المبادرة إلى حل مشاكلهم سريعاً قبل أن تورث العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولكن لما كان الناس غير مستشعرين للمسؤولية العظيمة عليهم فيما يتعلق بدينهم أن يكونوا أنصارًا له، أن يحملوا روحية القرآن بين جنوبهم – تقريباً – لم يوفقوا، لم نوفق، متى خرج الناس من المسجد وقلوبهم ممتلئة حباً لبعضهم بعض بعد خطبة يسمعها مني أو من هذا أو من ذاك.
البعض يقول: لماذا لا تركزون على جانب الأخلاق، وتأمرون الناس بأن يكونوا فيما بينهم متآلفين، متحابين وينصفون بعضهم من بعض، ويحلون مشاكلهم سريعاً قبل أن تتحول إلى مشاكل تورث العداوة والبغضاء فيما بينهم.
من وجهة نظرنا – فيما نعتقد – لن يتحقق لنا هذا ما لم نحمل هماً كبيراً هو: أن نجند أنفسنا لله، وأن نستشعر المسؤولية الكبيرة أمام الله بأن نكون من المجاهدين في سبيله، وممن يعمل على إعلاء كلمته، متى ما حصل هذا وأصبح هماً لدينا، وأصبح كل شخص يستشعر المسؤولية في هذا فهو – وبتوفيق الله وألطافه – سينطلق بحرص على أن تكون علاقته مع أخيه، مع صاحبه، مع جاره علاقة حسنة، يعزز كل العوامل التي تخلق المحبة في أنفسهم لبعضهم بعض، يحرص على أن لا تنطلق من فمه كلمة تجرح مشاعر أخيه، ومتى ما بدرت منه زلة أسرع إلى الإعتذار، ومتى ما أحد أخطأ عليه كظم غيظه، أو عفى عنه، ومتى ما اعتذر أخوه قبل عذره، يتعامل الناس مع بعضهم بعض بأخلاق حسنة، وبنصح، وبمودة، وبإخلاص.
الله سيتدخل كما صنع لأولئك الذين كانوا يخرجون يتقاتلون خارج المدينة، فألف بين قلوبهم، عندما استجابوا للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) استجابة أولية، أنهم مستعدون أن ينطلقوا تحت رايته، فيقول أحد كبارهم: امض يا رسول الله، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه، ولن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة: من الآية24) بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. ألف الله بين قلوبهم، وأنقذهم.
نحن نلمس أنما يذكَّر الناس به من الأخلاق الكريمة في خطب الجمعة وغيرها من المواعظ كلها مجرد تذكير لا يقدم ولا يؤخر ولا يخلق في أنفسنا شيئا.
يجب أن نذكِّر بهذه الأخلاق الكريمة، أنها مهمة، وهي في حد ذاتها تعتبر طاعة من طاعات الله العظيمة. ولكن يجب أن نفهم أيضاً أن من أبرز غاياتها هي أنها تخدم عملية وحدة المؤمنين فيما بينهم، تلك القضية التي لا بد منها في تحقيق المسؤولية الكبيرة عليهم لدين الله سبحانه وتعالى، أن يكونوا من يعمل على نصر دينه، من يعمل على إعلاء كلمته، من يدافع عن دينه، نفهمها على هذا النحو، أما أن نتوقع أنها ستتحقق لنا، فنحن قد جربنا أنفسنا, وأعتقد كل الناس قد جربوا أنفسهم، من هو الذي لم يسمع كلاماً كثيراً من هذا النوع في خطب الجمعة وغيرها، عن الأخوة والمحبة والألفة والتعامل الحسن وكظم الغيظ.. و.. إلى آخره، نتحدث عنها كطاعات مفردات من الطاعات، لا نتحدث عن غايتها المهمة التي تكشف عن أهمية ذلك المبدأ الذي كل هذه التشريعات تتجه نحو تهيئة الأمة لتكون بمستوى أن تنهض به.
فما لم نحمل هذا الهم – فيما أعتقد وفيما أرى – لن يتحقق لنا شيء في واقع أنفسنا، ومتى ما حملنا هذا الهم الكبير، ومتى ما شعرنا بالمسؤولية الكبيرة، فإن من المتوقع فعلاً أن يتدخل الله، فهو هو الذي يقدر على أن يؤلف بين قلوبنا، على أن يملأ قلوبنا حباً لبعضنا البعض، على أن يؤتينا الحكمة في تصرفنا مع بعضنا بعض، هكذا قال عن أولئك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً}.
نحن لسنا أعداء فيما بيننا أليس كذلك؟ لكن نفوس متباينة، وكل واحد يشعر بأنه لا رابط له بالآخر إلا مجرد الإلتقاء اليومي في السوق، أوفي المسجد، لا غير، لقد تدخل الله سبحانه تعالى فمنَّ على أولئك بنعمة كبيرة الذين كانوا أعداء {أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} هل تعرفوا ماذا تعني كلمة الألفة؟. ألفت، أصبحت متآلفة، وليس فقط انتزع منها العداء فأصبحت طبيعية كما نحن عليه، أصبحت قلوباً متآلفة، ومتى ما تآلفت القلوب عظمت الثقة فيما بين الناس لبعضهم بعض، أصبحوا كياناً واحداً، أصبحوا كتلة واحدة، أصبح كل شخص منهم ينصح للآخر، ويخلص له، ويخدم ضميره، ويتألم له، يشترك هو معه في موقف من المواقف فلا يتخلى عنه، يحبه يوده، قلبه يألف قلبه، أصبحت القلوب متآلفة، أي لا يألف قلبي أن يظل منفرداً لوحده، يريد أن يبقى مع تلك القلوب التي ألفها.
القلوب تتآلف فتحب أن تجتمع متى ما ألف الله بينها، كما تحب أن تجتمع بصديق لك يوميا، تجلس معه، تجلس [تخزن] معه يومياً، فإذا ما غاب تصبح جلسة القات [تخزينة] ما أعجبتك {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناًً} من خلال ما هداكم إليه، فجعل له فاعلية في أنفسكم، وبتدخله وإمداده الإلهي الغيبي.
هذه القضية إذا لم نهتم بها فلو – فيما أعتقد – نجلس في هذا المجلس يومياً يومياً سنين طويلة سننسى كل شيء.. ننسى في هذا اليوم ما سمعناه مثل اليوم وهكذا، ونبقى نحن أولئك الأشخاص الذين ننظر إلى بعضنا بعض نظرات عادية.
لا نحن متوحدون ولا متفرقون، ولا مختلفون ولا متفقون، كل واحد لوحده، تجمعنا الشمس عندما تطلع فنتحرك ونتلاقى في الطريق، السلام عليكم، وعليكم السلام، وفي السوق نشتري حاجات بعضنا بعض، وكل واحد يرح بيته، نخرج نصلي في المسجد جميعاً، أو نصلي فرادى، وكل واحد يرجع بيته، لا نلمس بأن هناك شيئاً يجمع بيننا، ويهمنا جميعاً، لاهتمامنا المشترك به أصبحت قلوبنا متآلفة في ظله فيرتاح الواحد منا عندما يلقى أخاه في المسجد، أو في السوق، أو في الطريق فيصبح حتى للحياة مذاق آخر.
أعتقد أن بعض الناس في القرى يعيشون في واقع حياتهم غرباء، عندما يكونون غير متآلفين فيما بينهم، بل يعيشون أسر يحتاجون إلى [اتفاقيات مكتوبة] لكف الأذى عن بعضهم بعض.
وفي كل أسبوع، أو في كل يوم تقريباً تظهر مشكلة من هنا ومشكلة من هنا، وكل واحد يرى بأنه فقط قدره أن يكون في هذا البيت داخل هذه القرية.
تصبح الحياة تعيسة.. ترى الآخرين في المسجد لا يمثلون لديك شيئاً، إذا لم تستاء من رؤيتهم ومن لقائهم فقد لا يمثلون لديك أي شيء، منظر طبيعي، لكن متى ما تآلفت النفوس تعيش في حياة سعيدة ترى أصدقاء، ترى إخواناً، تدخل المسجد فترتاح برؤية إخوانك، تخرج إلى ساحات القرية فترتاح برؤية إخوانك، تمشي معهم في السيارة فترتاح بالمشي معهم، في السوق تلقاهم فترتاح بلقياهم، تعيش حالة من الحياة لها طعم لها مذاق.
نحن بعد لم نعرف، لكن من خلال ما نتصوره قياساً على أمثلة في واقع حياتنا عندما يكون لك صديق معين تحبه ألست ترتاح عندما تراه؟ وقد لا تكون صداقتكم مع بعضكم بعض تبلغ درجة الأخوة الإيمانية، لكنك ترتاح عندما تلقاه.
هذا أثره فيما يتعلق بالحياة جميل، فيما يتعلق بالنفوس، يجعل الحياة سعيدة بين الناس، وهم في قراهم، في مساجدهم، في تجمعاتهم، في أسواقهم، في طرقاتهم، وضعية تغيب فيها المشاكل، وضعية تختفي فيها الكثير من الإشكاليات التي سببها ومنشؤها التباين فيما بين النفوس، والوحشة فيما بين القلوب.
فكلمة من هذا تغرق هذا، سوء ظن، أو فهم خاطئ لعبارة منه تشكل مشكلة في القرية أو مشكلة بين أسرتين.
لذا يجب علينا – أيها الإخوة – أن نعرف من أين نأتي لأنفسنا، من أين نأتي لقلوبنا حتى تتآلف وتتوحد، أما إذا كنا لا يهمنا هذا ونجتمع لمجرد الإجتماعات، وحديث لمجرد الحديث، وكلام لمجرد الكلام فقد نقضي فترات طويلة لا نستفيد شيئاً.
ويقول سبحانه وتعالى وهو يعدد نعمه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهو يأمر عباده ويرشد عباده إلى تذكر نعمه عليهم {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (المائدة:7).
ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}(المائدة: من الآية11) أليس هذا تدخلاً إلهياً؟ {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}فيضربونكم {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} فهذه نعمة، نعمة أنتم ربما لا تشعرون بها, قد تعتبرون القضية أنه فقط مجرد قرار آخر، كانوا قرروا أن يعملوا بنا كذا لكن ترجح لهم أن يتخذوا قراراً آخر، أو ظهر لهم أن القضية لا تستلزم أن يتخذوا منا ذلك القرار السابق فغيروا رأيهم، يأتي تدخلات إلهية، فهنا يذكر عباده {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تلك النعمة التي هي أنه {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(المائدة: من الآية11) هذا مجال جديد من مجالات النعم أليس كذلك؟ مجال الدفع عن المؤمنين، وكف أيدي أعدائهم عنهم، أليست هذه نعمة غير النعم الأخرى النعم المادية هذه التي نراها؟
ويقول أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب:9) أليست هذه نعمة أيضاً من هذا القبيل، نعمة الدفع عن المؤمنين؟.
ماذا يراد من خلال هذه؟. أن تعرف أنك متى ما توليته توليت من هو على كل شيء قدير، توليت من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغفل عنك، توليت من سيرعاك ويدفع عنك {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} وهذا كان يوم الأحزاب عندما تجمع المشركون فبلغ عددهم ما يقارب عشرة آلاف شخص فحاصروا المدينة وحصل ما حصل من الرعب في نفوسهم الذي حكاه الله في كتابه الكريم: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:11).
في ذلك اليوم الذي برز فيه عمرو بن عبد ود، وتحدى المسلمين وهم نحو ثلاثة آلاف، وبينهم وبين المشركين الخندق الذي كان قد عمله النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) مع المسلمين فبقي في داخل الخندق هو ونحو ثلاث آلاف من المسلمين وهم في حالة من الرعب شديدة، برز عمرو وهو يتحدى، فبرز له الإمام علي (عليه السلام)، وهو ما يزال شاباً، قد لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين سنة فبرز إليه وقتله، فهناك تحطمت معنويات الكافرين.
وظلوا على حصارهم للمدينة، فأرسل الله عليهم فيما بعد الريح وكما قال هنا في هذه الآية: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} كانت تأتي الريح فتطفئ النار، وأدوات الطبخ لا تستقر تنكفئ الأواني بما فيها إلى الأرض، في الأخير قرروا العودة عندما رأوا هذه الوضعية المزعجة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}.
ويذكر الله في كتابه الكريم أنه هكذا مع كل الأمم، يأمرهم بأن يتذكروا النعم التي أنعم بها عليهم، فيقول في القرآن الكريم الذي هو أنزل إلى هذه الأمة يحكي أنه كان يخاطب بني إسرائيل في الماضي وخاطبهم أيضاً في هذا القرآن، خاطب من يسمع منهم في أيام النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) وفيما بعد: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40) {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:47) لاحظوا.. لما لم يتذكر بنو إسرائيل النعمة التي أنعم الله بها عليهم، هكـذا بلغ بهم الحال إلى أن يستبدل الله بهم غيرهم، وإلى أن يلعن الكثـير منهم، وإلى أن يصبح أكثرهم فاسقين.
وهكذا أيضاً أنبياؤه يذكرون أممهم أن يذكروا نعمة الله عليهم فيقول عن نبيه موسى وهو يتحدث مع قومه فيذكرهم نعمة الله عليهم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} (المائدة:20). {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (إبراهيم:6) يذكرهم بعدما قد نجاهم الله مما كان يعمل بهم آل فرعون من التعذيب والتنكيل، وبعد أن أصبحوا أمة مستقلة لها قائدها تتحرك هي في ظل راية الرسالة التي بعث الله بها موسى، لكنه كان يقول لهم: إنما أنتم فيه لا تستشعرون أنها وضعية تحافظون عليها وتحرصون عليها إلا إذا ما تذكرتم ما كنتم فيه أيام كنتم في مصر تحت عبودية آل فرعون, فرعون وجنوده وقومه أولئك الذين كانوا يقتلون أبناءكم، يستحيون النساء ويذبحون البنين ويسومونكم سوء العذاب فيستعبدونكم في المهن المسترذلة وفي الأعمال الشاقة.
وهذه الآية هي مهمة جداً، الناس عادة متى ما كانوا في وضع سيء ثم تبدل بهم الحال فأصبحوا في وضعية أخرى، كانوا أذلاء فأصبحوا أقوياء، كانوا مستذلين فأصبحوا أعزاء، أصبح لهم قوة، أصبحوا متمكنين.. قد ينسون ويظنون بأنه هكذا انتهت تلك الوضعية السابقة فلم يبق إلا هذه الوضعية الجيدة وهكذا ستبقى، يتصور الناس بأن تلك الوضعية ستبقى هكذا على ما هي عليه إلى الأبد.. ألم يكن الناس أيام كان سوق [الخوبة] مفتوح زمان، وكانت البضائع رخيصة، وكان الناس يتحركون، كنت تلمس من الناس أنهم يرون أن هذه الوضعية ستبقى مستمرة هكذا.
الإمام الخميني كان يقول للإيرانيين بعد الثورة الإسلامية: إن الحفاظ على الثورة أهم من الثورة نفسها، أنتم قد ثرتم ونجحتم وحققتم انتصاراً عظيماً لكن هنا بدأ العمل الحقيقي وهو: الحفاظ على الثورة.. هكذا كان يقول لهم.
كما هنا قال موسى لقومه: حافظوا على هذه الوضعية التي أنتم فيها، لا تتنكروا لله، لا تبدلوا نعمة الله، تذكروا دائماًَ ما كنتم فيه سابقاً، ثم اذكروا نعمة الله عليكم إذ نجاكم منه، وفعلاً هذه لهذا أثرها العظيم فيما يتعلق بالحفاظ على منجزات الأمة، إذا الأمة تقارن بين ماضيها وما بلغت فيه وترى الفارق الكبير بين ذلك الوضع السابق السيئ وهذا الوضع الجيد الحسن فستحرص فعلاً على أن ترعى، على أن تحمي، على أن تدفع عن كل ما حقق لهم ذلك المكسب العظيم. اذكروا نعمة الله عليكم أن نجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم..إلى آخره، ثم انظروا كيف أصبحتم الآن، إذا لم تتذكروا تلك الأعمال السيئة السابقة فإنكم لن ترعوا هذه النعمة وهذه الوضعية الحسنة التي أصبحتم فيها.
الله سبحانه وتعالى يعلمنا أيضاً أن أولياءه يدعونه أن يوفقهم لشكر نعمه فيقول عن نبيه سليمان: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل:17- 19).
لاحظوا نبي من أنبياء الله آتاه الله من الملك مالا ينبغي لأحد من بعده، حكم الجن والإنس والطير، وسخرت له الريح وسخر معه الجبال، وألان الله له القطر، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}(سـبأ: من الآية10)، هذا الذي كان دائم التذكر لنعمة الله فكان يقول: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(النمل: من الآية40) فعندما سمع كلام النملة، وعندما رأى ذلك الحشد الهائل من الجن والإنس والطير تبسم ضاحكاً، ولكن هل كانت ضحكته كضحكة قارون أو ضحكة الكثير من الأغنياء الذين يطغيهم المال، أو ابتسامة أولئك الزعماء الذين يرون أنفسهم جبارين فوق عباد الله؟ هذا نبي عظيم ينظر إلى ما بين يديه أنه نعمة من الله فيدعو الله أن يدفعه دائماً إلى أن يتذكر نعمه؛ لأن يشكرها {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}.
فنملة تذكره؛ ولأن يسمع كلام نملة فيعرفها ويعرف لغة هذه المخلوقات الكثيرة يرى وقع هذه النعمة، وعظم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه، فيطلب من الله أن يدفعه لأن يظل دائماًَ يتذكر هذه النعم، لأن يشكرها، وليس فقط النعمة التي أنعم بها عليه بل أيضاً تلك النعم التي أنعم بها على والديه، أنا سأشكرك على هذه النعمة التي أنعمت بها علي، وأيضاً على تلك النعمة التي أنعمت بها على والدي، فيدعو الله وهو المطلب المهم بالنسبة لعباد الله وأوليائه، فلا يرى ذلك الملك كله هو ما يحقق ما يريد له، إنه يريد من الله أن يدخله في عباده الصالحين، ذلك هو المقام الرفيع وذلك هو الملك العظيم.. {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
من هو من الناس، الناس الذين أكثرهم متى ما امتلك شيئاً بسيطاً من الدنيا أخلد إلى الدنيا، ونسي أن عليه أن يبحث، أن عليه أن يسعى، أن عليه أن يدعو الله باستمرار أن يدخله في عباده الصالحين، أن يكون من ضمن الصالحين, من ضمن أولياء الله.
أولئك الذين يطغيهم المال فينسوا أنهم في حاجة ماسة إلى مقام أرفع مما يرونه رفيعاً في حياتهم، هو أن يكونوا من عباد الله الصالحين في حياتهم، هو أن يكونوا من عباد الله الصالحين.
لا يصح أن ننطلق نحذر الناس من الدنيا؛ لأنها خداعة مكارة! هي نعمة عظيمة، إذاً تعال حذر من الألسن وقل اقطعوا الألسن أيها الناس، فإن الألسن تكذب، وتشهد الزور، وتحلف الأيمان الفاجرة، وتؤيد الباطل، وتنطق بالباطل، وتعيب هذا، وتسخر من أولياء الله، وهكذا… الألسن، الألسن اقطعوها، هل هذا منطق؟. لا.
هكذا حديث أولئك عن الدنيا نفس الحديث، إذا كنت تريد أن تعزل الناس عن الدنيا وأن يتركوها ويبقوا صعاليك فلا يستطيعون أن يعملوا شيئاً لدينهم، ولا يستطيعون أن يعملوا شيئاً يعزون به أنفسهم ويستغنون به عن أعدائهم؛ لكون الدنيا هي مكارة وخداعة، إذاً قل للناس أن يقطعوا ألسنتهم؛ فألسنتهم تكذب. الله الذي خلق المال هو الذي خلق الألسن، الذي خلق المال هو الذي خلق الأعين والألسن، إذاً أخرجوا أعينكم فإنها تنظر إلى المحرمات، اقطعوا ألسنتكم فإنها تكذب وتشهد الزور وتحلف الأيمان الفاجرة وهكذا.. الأنفس!!.
ولهذا جاء القرآن بهدايته الواسعة متجهاً نحو النفوس ولم يصب جامَّ غضبه على الدنيا، بل هو من يذكرنا بهذه النعم العظيمة في الدنيا، لم يأت ليقول للناس كما يقول كثير من أولئك الذين يرشدون الناس من أطرف كتاب يرونه، بل قال الله للناس: لا تغرنكم الحياة الدنيا فقط، لا تلهيكم، لا تنخدعوا بها، لا تؤثروها على الآخرة.. هذه عناوين حديث القرآن عن الدنيا.
لكن انطلقوا فيها ابتغوا من فضل الله فيها، تحركوا فيها، ولكن اهتدوا فيها وأنتم تتحركون فيها بهديي، زكوا أنفسكم بهديي، حينئذ فليملك أحدكم كما يملك سليمان لا تغره الدنيا ولا تخدعه الدنيا، سليمان الذي قال {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} وإشارة هذا إلى الملك العظيم الذي أوتيه {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}.. هكذا يأمر الله سبحانه وتعالى أولياءه، أو يذكر أن أولياءه هم دائماً يدعون الله أن يرزقهم تذكر وشكر نعمه، وهم أولئك الذين إذا ما ملكوا نعمه الكثيرة كيفما بلغت لا تملكهم، لا تخدعهم، لا تغرهم، لا يؤثرونها على الآخرة، لا تلهيهم عن ذكر الله.. فهل تتذكر وأنت تملك شيئاً من الدنيا قد يكون ما تملك يساوي [قدراً] أو اثنين من قدور سليمان التي كان يعملها الشياطين له {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}(سـبأ: من الآية13) أليس هكذا في الآية؟.
وتريد أن تطغى، تريد أن تتكبر، تنسى أن تطلب من الله أن يدخلك في عباده الصالحين.. تعال، انظر إلى سليمان الذي ملك الدنيا، ملك الجبال، ملك الطير، ملك الجن، ملك الإنس، ملك البر والبحر، ملك الرياح، تعال إلى كلماته الرقيقة: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}.
بعض الناس ينسى أن يدعو لوالديه فيما إذا تركوا له مالاً [الله لا يرحمه إنه أعطى فلانة جربة فلان, كان عادها قال مهر, قال يريد يتخلص..].
سليمان يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} هذا الملك كله أنا أريد أن أسخره في الأعمال الصالحة، تلك الأعمال التي ترضيك.. {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أليست هذه كلمات رقيقة؟ ما أبعد الناس، أولئك الذين لا يملكون مثل قدور سليمان عن هذا المنطق، أصبح الناس كما قال الله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6-7).
إذاً فالمعالجة أن نأتي نحن لنعالج الإشكالية في النفوس، وهو توجه القرآن الكريم، هو توجه إلى النفوس، لنعلم الناس كيف يزكون أنفسهم. لا أن نأت لنصب جامَّ غضبنا على الدنيا نفسها التي هي نعمة عظيمة من نعم الله، والتي للإنسان دور مهم فيها، في تحقيق عبادته لله سبحانه وتعالى، وشهادته بكمال إلهه، نتجه إلى النفوس ونذكر الناس كيف يتعاملون مع الدنيا، كيف يملكون الدنيا ولا تملكهم، كيف يكون همهم أن يعملوا أعمالاً صالحة من خلال ما يملكون، وعلى الرغم مما يملكون، وأن ينشدوا ذلك المقام الرفيع وهو أن يكونوا ضمن عباد الله الصالحين في هذه الدنيا وفي الآخرة.
أيضاً يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(الأحقاف: من الآية15). ويصف أولياءه سبحانه وتعالى بأنهم يشكرون نعمته فيقول عن نبي الله إبراهيم (صلوات الله عليه): {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:121) وموسى (صلوات الله عليه) يتمثل شكره لتلك النعمة في قطع عهد على نفسه فيقول: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص: من الآية17).
من منا يقول هذا؟ من منا عندما يرى أمواله التي تدر عليه مبالغ كبيرة، من منا يقول هذا عندما يرى نفسه أنه أصبح في موقف حق وفي عمل حق؟. وأنه وفق لأن يكون ممن ينطقون بالحق، ويعملون بالحق ممن يهدون بالحق وبه يعدلون فيقطع على نفسه عهداً أمام الله {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} هل تتصورون بأن موسى دخل من طرف مزرعته وفيها ما لا يقل قيمته عن نحو مليونين دولار من ثمار وممتلكات وآليات داخلها فقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}؟ بل رأى نفسه أنه أصبح إنساناً استطاع أن يقول الحق، وأن يقف موقف الحق، وأن يقف في وجه الظالمين، فكانت هذه هي النعمة الكبرى.
هذه هي من أهم الأشياء التي تخلق لديك حصانة عن أن تنخدع بالآخرين الذين ينطلقون يثبطون الناس؛ لأنه من هو ذلك الذي يمكن أن يؤثر فيك وأنت ترى ما أنت عليه نعمة عظيمة، ستسخر منه أنت؛ لأنك ترى ما أنت فيه نعمة عظيمة؛ ولأنك تحس بأنك وفقت إلى نعمة عظيمة من خلال مقارنتك أنت للآخرين الذين يبذلون أموالهم وأيديهم وألسنتهم وأنفسهم في طريق الباطل وفي خدمة الباطل، وأنت تعرف أين سيكون مصيرهم، سترى أنت أنك في نعمة عظيمة فتصبح ممن يكون من المستحيل أن يؤثر عليه الآخرون بدعاية أو تضليل أو خداع أو ترغيب أو ترهيب، يصرفونه عما هـو فيه؛ لأنـه يرى مـا هـو فيه نعمة، نعمة دفعته إلى أن يقول: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}.
ويذكر الله عن نبيه نوح أيضاً فيقول: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}(الإسراء: من الآية3) هكذا تجد شكر النعم الإلهية في مجال نعمة الهداية والنعم المادية المتعددة شكرها وتذكرها من أهم صفات أولياء الله؛ لما لها من أثر كبير في ربطهم بوليهم، بالله سبحانه وتعالى.
نجد كذلك كيف يأمر الله عباده بشكر نعمته بصورة عامة فيقول: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل:114) {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة:152) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172) {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(العنكبوت: من الآية17). ومتى ستشكر الله؟. إذا كنت دائم التذكر لنعمه العظيمة عليك.
يأتي في المقابل خطورة الإساءة التي تحول النعم فتبدل النعم، تلك الإساءة العظيمة إلى الله {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة:211). ما هي هذه النعمة هنا؟. أليست هي نعمة هداية؟. من أبرز ما تعنيه هذه الآية – فيما نفهم – هو التركيز على نعمة الهداية إلى الإيمان، هداية الآيات البينات، فيما تتركه من أثر في النفوس فسماها نعماً. {كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} هي نعم عظيمة عليهم {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فتذكر هنا أنك عندما ترى نفسك تسير على هدي الله، تهتدي بآيات الله، تلزم نفسك على أن تعمل وفق آيات الله التي تهديك إلى أن تعمل الأعمال الكثيرة التي فيها رضاه فأنت في نعمة عظيمة فإذا ما استبدلت بها غيرها خطوطاً أخرى، مواقف أخرى، أشياء أخرى هي مخالفة لهدي الله سبحانه وتعالى تسير بك على غير صراطه فاعلم بأنك قد عرضت نفسك لعقوبة عظيمة من الله، وأنك قد بدلت نعمة الله {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(إبراهيم:28-29) جهنم هي مصير الذين يتنكرون للنعم.
تأمل كيف أن الله يذكرنا بأنا متى ما وفقنا إلى عمل هو اهتداء بآياته، يذكرنا أن ننظر إلى ما نحن فيه أنها نعمة عظيمة، لا تعتبرها إشكالية، وتعتبرها حملاً ثقيلاً، انظر إلى ما وعد الله به من يعمل كعملك، انظر إلى ما وعد الله به أولياءه، انظر إلى ما وعد الله به المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة كيف تراه وكيف ستقتنع فعلاً، وترى بأنك في نعمة عظيمة فترعاها، لا تبدلها ولا تتبدل عنها، ولا تحاول أن يكون موقفك موقف من يستبدل الله به غيره فتكون قد عرضت نفسك إلى أن يكون مقرك هو جهنم ونعوذ بالله من جهنم التي قال فيها: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} بئس المستقر.
ويقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112). لماذا كفرت بأنعم الله؟ هم كانوا يتقلبون داخل مدينتهم في نعم كثيرة حاجاتهم متوفرة {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي واحد منهم يمكن أن يعمل له أي عمل فيدر عليه دخلاً كبيراً, يبحث عن حاجاته فيراها كلها بين يديه تتوفر، والحياة في المدينة فعلاً تكون على هذا النحو لكنها تكون خطيرة. حياة المدينة هي خطيرة جداً فمظهر كفر النعم الجماعي يأتي من داخل المدن فتكون العاقبة هكذا {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}؛ لأنهم نسوا أن يتذكروا تلك النعم العظيمة التي هم فيها من سهولة المعيشة، سهولة الحصول على الرزق، توفر الحاجات، تأتي المدينة من القرى، من الأرياف، من البلدان الأخرى.
وربما – والله أعلم – أن اليهود يعرفون هذه القضية؛ فلهذا يعملون على أن تظل الأرياف في مختلف الشعوب الإسلامية أريافاً تفتقر إلى الكثير من خدمات الحياة, قد تكون الحياة فيها صعبة؛ ليهاجر الناس نحو المدن، فيتجمعون هناك بأعداد كبيرة لا ضابط لها، ليس هناك من يوجهها ويرشدها، ليس هناك من يرعاها، بل العكس ترى هناك مظاهر الفساد، ترى هناك وسائل الإضلال فتؤدي بتلك المجاميع التي كانت تشكر الله هنا وهي في قراها، عندما كانت تحصل على رزقها مما بين أيديهم، يكون لديهم الحيوانات، أبقار وأغنام وغيرها من الحيوانات ولديهم مزارع، ويشتغلون فيها، ويحيون حياة تجعلهم يحافظون على دينهم، وعلى قيمهم، لكن يرون مظاهر الحياة الأخرى تتطور، وتهملهم الدولة فلا كهرباء، ولا مياه، ولا مراكز صحية، ولا مدارس، ولا تلفون، ولا خطوط، ولا أشياء كثيرة يفقدونها فينطلقون نحو المدن بأعداد كبيرة.
وهناك يتجمعون أعداداً تنسى الله، أعداداً تكفر بنعمه، فأعداد كهذه هي ذابت فعلاً ذابت في حياتها الإيمانية، ذاب في نفوسها الإيمان، وتضاءلت القيم، حتى تلك القيم التي كانت عربية تتمتع بها في قراها، تضاءلت وأصبحت منسية، أمة كهذه هل يمكن أن تحظى برعاية من الله؟. لا يرعاها.
مجاميع كهذه من المسلمين إنما تجمعت في شبكات للصيد تصبح فريسة في أيدي اليهود، تصبح فعلاً فريسة في أيدي اليهود؛ لأن كل فساد هو في خدمة اليهود، والمدن هي من أسرع المناطق في الشعوب إلى الفساد والإفساد، حتى الأرياف نفسها لا تفسد إلا بعد أن يصل إليها الفساد من المدن.
تذكرت عندما قال لنا – ونحن نذهب في رحلة في شمال إيران – أحد الإخوة الإيرانيين: إنهم يهتمون جداً بالأرياف؛ لأن الغربيين يريدون أن يبقى الناس في الأرياف لا تتوفر لهم الخدمات، لا تتوفر لهم وسائل الحياة التي يتمتع بها أهل المدن، فيهاجرون إلى المدن، فيشكلون أو يصبح بواسطتهم مشاكل كثيرة تحصل: اقتصادية، وبيئية، وأخلاقية، وتصبح المدن مظاهرها فاسدة. فاهتموا فعلاً هناك أن يوفروا للقرى الكثير من الخدمات، لكننا هنا نحن في هذا البلد وفي شعوب أخرى تجد الأرياف ليس لديها إلا البسيط، البسيط من الخدمات. فبيد من يصنع هذا؟ بيد من ترسم هذه الخطط؟.
هم اليهود الذين يمتلكون – كما قلنا أكثر من مرة – خبرة بالسنن الإلهية، وبالسنن الإنسانية.. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل:112). ونجد بعد هذا وعد الله الحسن للشاكرين حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: من الآية144) {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: من الآية145) {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(ابراهيم:7) ويقول عن قوم لوط: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}(القمر:35).
فننجي الشاكرين، ننجي الشاكرين من كثير من المهالك، وبهذا عرفنا – أيها الإخوة – كيف أنه يجب علينا أن نكون دائمي التذكر لنعم الله علينا، لما لها من علاقة قوية، علاقة قوية بالله سبحانه وتعالى، بمعرفة الله تجعلنا نتولى الله، ونعظمه، ونحبه، فننطلق في كل عمل يؤدي بنا إلى رضاه، يؤدي بنا إلى أن نفوز برضاه وجنته.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين لنعمه، من الذاكرين لنعمه والشاكرين له عليها، وأن يجعلنا من أوليائه الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
التعليقات مغلقة.