سورة الانعام الدرس الرابع والعشرون
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
انتهينا بالأمس من التأمل في السور السابقة: [الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، وسورة النساء، والمائدة] ومما وجدنا في هذه السور، من المواضيع الرئيسية فيها أنها قدمت صورة كاملة عن بني إسرائيل، عن أهل الكتاب بشكل نقول: – فعلاً – بشعين، وأصحاب قلوب قاسية، ونفوس خبيثة، ومع ذلك رأينا كيف أنه استثنى فئات منهم في تاريخهم الماضي، وأثنى عليهم، وقدمهم كنموذج لمن اهتدوا بهديه، وأن أولئك – وهم أكثرهم – ما صاروا إلى ما صاروا إليه، وأصبحت حالتهم كما قدمها لنا إلا بسبب إعراضهم عن هدي الله.
كشف لنا نواياهم، وأوضحهم لنا بشكل فعلاً يعطي رؤية متكاملة في التعامل معهم، حيث يرى الإنسان بأنه فعلاً أن يكون هناك أمة على هذا النحو من الفضاعة، على هذا النحو من الخبث، ويمثلون كتلاً من الحقد، والعداء للبشر، وبجرأة حتى على الله سبحانه وتعالى، أنه فعلاً بمقدار ما رأيناهم على هذا النحو، بمقدار ما أوضح خطورتهم الكبيرة، ولنعرف في نفس الوقت سوء تقصير الناس في مواجهتهم، وهم يرونهم – فعلاً – على ما حكى القرآن عنهم.
ليس باستطاعة أحد أن يقول: أن أهل الكتاب في هذا العصر كشفوا أنفسهم، أو رأينا من خلال أعمالهم ما يدل على أنهم بعيدون عما حكى القرآن عنهم، في أعمالهم، في حركاتهم، في تخطيطهم، في ممارساتهم، في إعلامهم، في سياستهم، في اقتصادهم، وجدناهم فعلاً يشهدون على أنفسهم بأن ما قال الله عنهم في القرآن هو حقيقة لا مرية فيها، ولا شك فيها. إذاً فكيف ستكون جريمة من يبتعدون عن التفكير بالعمل في مواجهتهم، وفي دفع شرهم، كيف ستكون جريمة من قد ينطلق يسارع فيهم، كما حكى الله في الآيات السابقة التي سمعناها في [سورة المائدة].
هذه هي الخلاصة التي نخرج بها من تلك السور، وفعلاً – كما قلنا سابقاً – القرآن الكريم مواضيعه مترابطة، وأنت تحتاج إلى أن تكون هذه المواضيع بمجملها في ذهنيتك، لا يكفي موضوع واحد منها أن تعرفه، تحتاج إلى معرفة هذه المواضيع، على هذا النحو الذي قدم في القرآن الكريم؛ لهذا عندما ندخل إلى [سورة الأنعام]، سورة الأنعام هي تتحدث عن قضايا كثيرة أخرى، تركز بالذات على ما يتعلق بمعرفة الله سبحانه وتعالى، والحديث حول المشركين، وقضايا كثيرة جداً تتناولها، هي في الواقع لا تعتبر موضوعاً جديداً بمعزل عن المواضيع السابقة أبداً. نحن بحاجة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأننا وجدنا في السابق: أن القضية التي تضمنتها تلك السور هي: أن ينطلق الناس في سبيله؛ ليكونوا قوامين بالقسط، ليعملوا على إعلاء كلمته، ليواجهوا أعداءه، قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان على معرفة عالية بالله سبحانه وتعالى؛ لتكون ثقته بالله كبيرة.
إذاً لا نرى بأنه من المناسب أن نتناول كل سورة ونقول: هذه السورة هي تتناول موضوع كذا وكذا، ثم نأتي إلى سورة أخرى ونقول: هذه تتناول موضوع كذا وكذا؛ لأنك تجد داخل هذه السور مواضيع متعددة، وتجدها في الأخير هي تصب في موضوع واحد، والقرآن كله يصب في موضوع واحد هو النفس، هو هذه الحياة؛ لهذا وجدنا آية في آخر [سورة المائدة] تعطي خلاصة للموضوع، أن يقدم صورة عن أهل الكتاب كيف هم، وأنهم ضعاف مهما رأيناهم كباراً، وأن الناس إذا تحركوا على أساس هدى الله سبحانه وتعالى سيكون معهم ويؤيدهم، وهو ملك السماوات والأرض، وأشياء كثيرة رأيناها، وضرب أمثلة كثيرة لتأييده لأوليائه في مراحل التاريخ، ثم جاء بخلاصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}(المائدة: من الآية105) لأن القضية كلها لا يأتي الخلل إلا من جهتكم أنتم، متى لم تكونوا مؤمنين بالشكل المطلوب، ولا واعين، ولا فاهمين، ولا واثقين بالله، ولا مرتبطين بالله بالشكل المطلوب فعلاً سيبدو كل شيء خطيراً، ويبدو كل شيء فعلاً يضركم، ويؤذيكم، وتسليط، وظلم، وقهر، وأشياء كثيرة جداً.
{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} إذا كنتم مستقيمين أنتم، وتبنون أنفسكم بناء صحيحاً على ما قدمه هذا الهدى، إذاً فـ{لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} أبداً {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} بمعنى ماذا؟ أن موضوع العدو – كما نقول أكثر من مرة – أن القرآن الكريم قدم موضوع العدو محسوماً تماماً، يعني ماذا؟ {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}(آل عمران:111)، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}(آل عمران: من الآية120)، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(آل عمران: من الآية186).
وهكذا قدم أن موضوع العدو محسوم، موضوع التأييد الإلهي محسوم، فقط الإشكالية هي أين؟ عندكم، في أنفسكم أنتم، أن تضعف استجابتكم، أن يقل اهتمامكم، أن لا تستوعبوا هذا الهدى، أن لا تتحركوا على أساسه، فعلاً الخلل جاء من عندكم، إذاً لا تنسبوا الخلل إلى واقع هذه الحياة، كما يعمل الآخرون، وفعلاً هي إشكالية حصلت وهي كبيرة، معناه: انتبهوا لأنفسكم أنتم، عليكم أنفسكم، صلحوها، اهدوها، حاولوا أن تبنوها على هذا النحو، وكل شيء سيستقيم، كل شيء سيستقيم، العدو موضوعه محسوم سيضرب، التأييد الإلهي لن يخلف الله وعده، هذا هو الخلاصة، وهي فعلاً تذكرنا، وهي آية هامة، وللأسف يأتي البعض ويحرف معناها بشكل سيئ جداً، هذه الآية جاءت بعد توجيهات كثيرة عملية، عملية كلها وموجهة إلى من؟ موجهة إلى الناس، إلينا نحن، في الأخير إذاً تجلت القضية بالشكل الكافي فانتبهوا لأنفسكم أن تستقيموا، وكل شيء محسوم، كل شيء مما يمكن أن تخافوا منه موضوعه محسوم، وفي نفس الآية أرفقها بما يوحي بتهديد: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(المائدة: من الآية105).
إذاً رأينا كيف أن الناس عندما يعتمدون على القرآن أليس بالشكل الذي يعتبر جديراً بأن يعتمد الناس عليه، ويهتدوا به؟ يقدم الأشياء بشكل واضح، وبشكل متكامل، كم ذكر عن بني إسرائيل! شخصهم بشكل كامل، إضافة إلى ما سيأتي في بقية السور، أحياناً يتناول في أي سورة من السور الكبيرة، يتناول ولو بجزء من المواضيع الأخرى الكبيرة خارج الموضوع الخاص الذي تعطيه السورة أولوية؛ ليبقى الموضوع في ذهنيتك مرتبطاً، تبقى الأمور مرتبطة، مثلما نقول الآن، الآن قرأنا سور تناولت في مواضيعها الرئيسية، ولا نستطيع أن نقول – وهو فعلاً – أن نقول: أننا استوعبنا كلما يمكن أن تعطيه هذه السور أبداً، هذه السور لا يمكن أن نقول: أننا استوعبنا كلما يمكن أن تعطيه، لو نرجع إليها مرة ثانية، ونرجع مرة ثالثة، وشهر بعد شهر، وفي حركة الناس في الحياة، تجدها نهراً – كما قال الإمام علي – نهراً يتدفق، لا ينضب على الإطلاق.
فعندما ندخل في هذه السورة، موضوع هذه السورة هو موضوع مرتبط بالمواضيع السابقة، والمواضيع السابقة مرتبطة ببقية المواضيع في السور الأخرى، وهكذا، ليس هناك تجزئة في القرآن، حتى لاحظ كيف يقدم الأحكام التشريعية التي هي محط اهتمام الناس، الأحكام التشريعية تلك، الفقهية، فهو يقدمها في داخل المواضيع الكبرى، ويشبكها بشكل ممتزج مع كل المواضيع، هكذا تجد، وكما نقول دائما: نحن نريد من خلال أن نعرف هدى الله سبحانه وتعالى الذي يأتي في نفس الوقت يهدي بتبيين، ويهدي في إعطاء منهج، منهج لحركة الناس في سبيل أن يكونوا قوامين بالقسط، في سبيل أن يكونوا مصلحين في أرضه، في سبيل أن يكونوا مصلحين لعباده، هذه النظرة الشاملة، تقدم القضية برؤية مترابطة مع بعضها بعض، تعني فعلاً بأن ما حصل في ثقافتنا من رؤية تجزيئية، ومنبعها: أصول الفقه، الرؤية التجزيئية، النظرة إلى كل قضية بخصوصها، وإلى كل قضية لوحدها، ويرى هذه القضية لوحدها، وتلك لوحدها، وتلك لوحدها في معظم ما قدم، أن هذه تعتبر نظرة سيئة وسلبية بشكل كبير، النظرة التجزيئية هي النظرة التي قدمها منطق أصول الفقه، بينما تجد القرآن الكريم كيف منطقه؟ كيف أسلوبه؟ أليس هو يعطيك الرؤية الشاملة، ويقدم القضايا أمامك مترابطة.
أنت عندما ترى عنواناً كبيراً مثلاً جهاد في سبيل الله، أليس هذا عنواناً كبيراً؟ لاحظ كيف يرفقه بعناوين كثيرة، ومواضيع أخرى كثيرة جداً جداً، تجعل هذه القضية عندك في الأخير قضية تشتاق إليها، وليس أنك تبحث كيف تتخلص منها.
النظرة التجزيئية الأخرى كيف تقدم؟ الجهاد، أي: الله أمر الناس أن يجاهدوا في سبيله، هذا الحكم الشرعي، أليس هكذا؟ أي: يقاتلوا، ورجع إلى من؟ ورجع إلى نفسه يقول: إذاً القتال هذا هو فعلاً حكم إلهي لكن هو بالتأكيد فيما إذا كان الناس مستطيعين، ثم يرى نفسه [لسنا مستطيعين، ولا معنا، وليس لدينا، وليس بإمكاننا، ولا ولا….] إلى آخر ما يمكن أن يجمِّع من أشياء؛ ليقدم القضية في الأخير وكأنه قد أخرج نفسه من هذا الخطاب، ومن هذه المسئولية، [لم يعد علينا شيء، إذاً فلم يعد يلزمنا] ما يلزمنا، يعني: لا تناله المسئولية فيصبح مخاطباً، في الأخير يخرج نفسه بالطريقة هذه، لم يعد حتى مخاطباً؛ لأنه [ما يلزمنا، ولا يتوجه الخطاب إلينا بشكل ملزم إلا إذا كنا مستطيعين، والإستطاعة تعني كذا كذا، كذا..]، وكأن هذه الأشياء يجب عليها هي أن تتوفر تلقائياً.
هكذا يأتي التعامل مع القضايا، حتى قدمت القضايا الهامة الكبيرة التي هي أساسية، بل يتوقف عليها إقامة دين الله، وإقامة الأمة، أصبحت في قائمة المنسيات، والمستحيلات، فعلاً والمستحيلات؛ لأنها قدمت على هذا النحو، أي: صارت النظرة إليها على هذا النحو: النظرة التجزيئية. القرآن الكريم لا، أسلوبه ثاني، يقدم لك القضية، ثم يقدم كلما له علاقة بها، ويدفع إليها إلى أن تراها لا تخرج عن قول الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: من الآية185)، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}(المائدة: من الآية6)، لاحظ في موضوع معرفة الله سبحانه وتعالى، وجدنا في السور السابقة كلاماً كثيراً في موضوع معرفة الله، وفي هذه السورة بالذات، نرى أيضاً داخلها منهجاً، ونحن نقول أكثر من مرة: نحن نريد أن نعرف كيف نتعلم، أن نعرف كيف نتعلم فعلاً، فنعرف كيف هو المنهج الصحيح الذي يعطي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وبكتابه، وبرسوله، وباليوم الآخر، وبهذه الحياة الدنيا، وبالإنسان، وبالأمور كلها.
يقول سبحانه وتعالى في هذه السورة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}(الأنعام: من الآية1) هذه السورة نزلت في مكة، وهي من السور القديمة، قد تكون ربما في نحو منتصف فترة مكة، يعني: هي نزلت تخاطب مجتمعاً كافراً مشركاً، أليس كذلك؟ مجتمعاً مشركاً كافراً كله، محيط مكة وما حولها؛ كان المؤمنون ما يزالون قليلاً.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(الأنعام:1) أليس هنا في المقدمة جاء باسمه سبحانه وتعالى [الله]؟ في بسم الله الرحمن الرحيم، وفي قوله: الحمد لله، أليس اسمه هنا؟ ثم يذكر: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، باعتبار السماوات والأرض فيها آيات كثيرة جداً لعباده، سيأتي في بقية السورة بتفاصيل كثيرة حول ما في السماوات وما في الأرض، وعلى أي أساس قدمت للناس، كيف ينظرون إليها، لماذا يأتي في المقدمة باسمه {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهو يخاطب مشركين كفاراً، ويراد لهم أن يدخلوا في الإسلام، بينما المنطق الآخر من بعد، من بعد الإسلام، المنطق الذي جاء من بعد، منطق المتكلمين، لا تقولها بالطريقة هذه! حاول أن تسلك طريقة أخرى: أن تلفت نظر الإنسان أولاً إلى الأشياء هذه، أي شيء من المخلوقات هذه، تقول له: هذا محدَث، وهذا المحدَث علامات أنه محدَث كذا كذا كذا، ولا بد له من محدِث، وفي الأخير: إذاً هناك محدِث، ليس وقت أن تقول: الله، بناء على ماذا؟ بناء على أن الأصل في الموضوع بالنسبة للإنسان هو أنه لا يعرف الله، لا يعرف الله نهائياً!.
لهذا أفرطوا في هذا الموضوع إلى درجة أنه تساؤلوا: هل يصح أن يقدم القرآن الكريم في الاستدلال على الله للآخرين؟ قرروا في الأخير بأنه لا؛ لأنه عندما نأتي إلى القرآن الكريم لنستدل به على الآخرين، وهم لم يؤمنوا بالله، ونحن نريد منهم أن يؤمنوا بالله، والإيمان بالقرآن لا يأتي إلا من بعد الإيمان بالله، فهذا يلزم منه [الدور]؛ لأن الإيمان بالقرآن يتوقف على الإيمان بالله، ونحن نريد من خلال القرآن أن يؤمنوا، فيكون معنى هذا [الدور] الذي يسمونه، وهو: توقف الشيء على نفسه، يعني سنقدم القضية: الإيمان بالله متوقف على القرآن، والقرآن متوقف على الإيمان بالله، قرروا في الأخير: لا، القرآن هناك على جنب، البعض من أصحابنا الذين لا يزال عندهم حياء قليلاً من الله أنه لا، على الأقل الآيات المثيرة لدفائن العقول، مثل آية {أَفَلا يَنْظُرُونَ}(الغاشية: من الآية17) ونحوها.
إذاً هنا القرآن تجد فيه قضية أساسية ترسم منهجاً، وتحكي واقعاً في نفس الوقت، لا يأتي في الغالب أي شيء من تفاصيل هذه المخلوقات إلا ويأتي باسمه فيها، باسمه سبحانه وتعالى فيها؛ لأن القضية لم تقدم على هذا النحو الذي يتصوره المتكلمون: استدلال على الله؛ لإثبات وجود الله، إن الله يسمي نفسه – سبحانه وتعالى – في القرآن بأنه الظاهر، هو أظهر من مخلوقاته، أظهر من مخلوقاته، لا يقدم الأشياء على أساس للإستدلال عليه، الاستدلال عليه؛ إنما لتقرير ربوبيته، ألوهيته، وحدانيته، ملكه، وليلفت أنظار الناس إلى مظاهر قدرته، ونعمته، وحكمته، وعلمه، أما بالنسبة له هو فهو معروف عند عباده، هو معروف عند عباده، يعني: هو غرز فيهم معرفته: أن هناك الله هو خلق السماوات والأرض، هو خلقنا.
وهذا هو الشيء الطبيعي، الشيء الذي لا بد منه، لاحظوا الآن نحن نرى مثلاً في حياة الناس أيَّ شركة يمكن تصنع صناعة دقيقة جداً ثم لا تذكر اسمها عليها؟ هل هناك شيء؟ لا يوجد، هل يمكن أن يخلق الله هذا الإنسان الذي يعتبر من أدق مخلوقاته، الإنسان هذا نفسه من أدق مخلوقاته ثم يصدر مجهول الهوية؟! نحن نرى [ميد إن جابان]، أو [ميد إن يو إس إي] أو أي بلد آخر، أليس هكذا؟ الإنسان من داخل [صنع الله] لم يصدر مجهولا على الإطلاق.
لو أن المسألة أن الإنسان ليس مفطوراً على معرفة الله لأصبحت مشكلة كبيرة جداً أمام الرسل، أمام الرسل أنفسهم، يأتي رسول يدعو الناس إلى الله سيقولون: مَن الله؟ يحاول يحاورهم بمنطق، يريد يتحدث معهم بمنطق فلسفي، هم لا يعرفونه أصلاً، وإن أراد أن يتحدث معهم بمنطق هكذا سيقولون: ما هناك الله، لكن تجد القرآن قدم استبياناً – كما نقول أكثر من مرة – قدم استبياناً من داخل الأمم كلها التي عرض للحديث عنها، أمم متقدمة من أيام نوح، كل استفسارات الأمم حول الشخص نفسه المرسل إليهم، أنه لا يمكن أن يرسل الله مثلك، أو ائتنا ببينة على أنك رسول من الله، هات لنا بينة على كذا كذا، هذه مشكلتهم، أو مشكلتهم أنه كيف يريد أن يجعل الآلهة إلهاً واحداً، لا، الله وكذا وكذا وكذا، إلى آخره، قدموا آلهتهم، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(صّ:5). ما هناك استفسار يدل على أنهم لا يعرفون الله، وليس لله معرفة لديهم على الإطلاق، هم يعرفونه في أذهانهم، في أنفسهم، مغروزة فيهم معرفة الله، ولا يستطيع الإنسان أن يعرف متى بدأ يعرف أن هناك الله، لا يستطيع الإنسان أن يعرف متى.
فكانت غلطة كبيرة جداً نرى القرآن ينسفها كلما يتحدث عن السماوات والأرض، منها هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في المقدمة {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} هذا عند المتكلمين استدلال غير منطقي! كيف يأتي باسمه وهو يخاطب مشركين، ويريد منهم أن يؤمنوا به؛ ولهذا في الأخير فعلاً أثروا تأثيراً سلبياً من النوع الذي نقول: تأثير لا شعوري – تقريباً – تأثير لا شعوري، ما عرفنا إلا وقد صرنا لم يعد هناك قيمة للرسل عندنا، ولا قيمة للقرآن عندنا، وجاهلين بالله جهلاً خطيراً جداً، ورهيباً جداً، بحيث ترى الآيات مثل الآيات هذه التي هي نزلت على المشركين، الكافرين، نرى أنفسنا بأمس الحاجة إليها نحن ما بالك بالمشركين الأولين، فعلاً أن هذه الآيات لا نزال في أمس الحاجة، والمجتمع المسلم بكله بأمس الحاجة إليها، وهي أساساً نزلت تخاطب مشركين.
كيف يمكن أن يقول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وهم لا يعرفون ماذا يعني الله، ولا يعرفون الله، هل هذا ممكن؟! إذاً، فهو يؤكد لك أنه يقول: الحمد لله، وهم يعرفون الله، بل يعرفون الله كإله مقدس فعلاً، ما هناك أحد يعرفه كإله مثلاً إله ليس جيداً، بل كإله مقدس، بل ملائكته معروفون، الملائكة معروفون، وخلق مقدس عند البشر أيضاً، الملائكة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. إذاً انتهى [علم الكلام] جاء بالموضوع هنا: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وهذا يريد يجلس يأخذ ويرد، وجدل، وكلام طويل، وتفكير طويل على ماذا؟ أن يثبت أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض؛ من أجل أن ذلك لا أدري من هو، يؤمن بالله؟!، الموضوع محسوم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الناس يعرفون الله، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهم يعرفونه. ثم عد إلى المشركين الذين نزل القرآن يخاطبهم وإذا هم فعلاً {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(الزخرف:9) يعرفونه ويعرفون أنه عزيز عليم، وفي آيات أخرى: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}(العنكبوت: من الآية61).
ارجع إلى باقي الأمم [مطلع مطلع] إلى المجتمع العادي، لا تقول: إنما هو فقط في طبقة المثقفين، أو الفلاسفة، أو نوعياتهم، بل المجتمع نفسه، يذكر عن النساء في أيام يوسف عندما كان في السجن، عندما سألوا النساء عنه ماذا قلن؟ في البداية عندما دخل عليهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}(يوسف: من الآية31)، لله، أليس معروفاً؟ معروف عند النساء المصريات اللاتي هن لفيف من المدينة؟ لا تقول: إنهن مجموعة متكلمات، أو فيلسوفات، نسوان، {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}(يوسف: من الآية31) ويعرفن أيضاً الملائكة، هل قال لهم ذلك موسى، أو يوسف أصبح يدعوهم؟ أبداً، هو لم يكن يدعو إلى النبوة، فقط دخل عليهن وهن يردن أشياءأخرى، فماذا قلن؟ {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} هل بعث إليهم إبراهيم، أو يعقوب؟ متى سار إليهم يعقوب؟ لم يسر إلا بعد أن أصبح يوسف ملكاً.
إذاً من الذي علمهم؟ هل كان يوجد متكلمون هناك؟!. المتكلمون تورطوا هم، في الأخير يتمنى، من كبارهم يتمنون الإيمان الفطري الذي عند أطرف عجوز، أن يكون إيمانهم مثل إيمانها، وهو يقول: من أول الواجبات، من أول ما يجب على الإنسان هو: أن يعرف الله! وقد فطره الله على معرفته، ثم لا تدري وأخرجوه هناك من الله.
هنا انتهى الموضوع، أغنى عن أبواب الاستدلال، والأحداث، ومحدِث، وحوادث، وتلك الأشياء كلها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يخاطب مشركين، فكيف يقدم من بعد؟ كيف يقدم الإسلام، كيف يقدم من بعد للبشر؟! وكأن الإسلام جاء ليجعلهم جاهلين تماماً بالله! لينسف الله من أذهانهم! حتى يأتي المتكلمون يقولون: نرد القضية ويأتي منطقهم الإستدلالي.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، مع معرفتهم أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، فيعدلوا عنه إلى آلهة أخرى يعبدونها، ويجعلونها شركاء له، يعدلون به غيره {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}(الأنعام:2)، ويعرفون أن الله هو الذي خلقهم، والناس جميعاً يعرفون أن الله هو الذي خلقهم، على اختلاف لغاتهم فيما يساوي كلمة: الله.
ثم يبين {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} سواء بالنسبة لأول إنسان – إذا كان المقصود فقط الأصل، أصلكم هو آدم -، وأيضاً الإنسان نفسه – كما في آيات أخرى – هو يخلق من عناصر هذه الأرض حتى وإن كان بطريقة أخرى، في أن يكون مثلاً من ماء مهين {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}(السجدة:8)، لكن عناصر هي التي تعتبر مجموعة مكونات هذه الأشياء هي التي تخلق منها.
هذه الآية تدل فعلاً وبوضوح على أن الإنسان خلق ابتداءً على هذا النحو، أول هذا الجنس الذي هو الإنسان أوله آدم الذي خلق ابتداء، وبني بناء من طين {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}(الرحمن: من الآية14)، ألم يقل هكذا في آية أخرى؟ لماذا يحاولون أن يجعلوا أصل الإنسان حيواناً آخر مثلاً إما قرد أو حيوان آخر وتطور، تطور إلى أن أصبح هكذا؟! هذا يكذبهم، القرآن الكريم يكذبهم، والواقع يكذبهم؛ لأنه لماذا لم نر لحد الآن على مدى القرون الماضية ناس [جداد] يتطورون من ذلك الحيوان الآخر؟ لو أن المسألة على هذا النحو لما كان الناس فقط هم آخر متطور على مدى الزمن، لكان هناك ناس جداد، لا ندري إلا وهناك ناس ليس أصلهم من آل فلان، ولا من آل فلان، ولا من الشعب الفلاني، جداد، اهتلت ذيولهم ذلك الوقت، فيكون إنساناً جديداً! لا، هذا منطق – فعلاً – منطقهم منطق من يستهين بالإنسان.
الله يؤكد في أكثر من آية، ولاحظ كيف الأشياء هذه العجيبة مما يدلك فعلاً القرآن يشهد بأنه من عند الله {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(الفرقان: من الآية6)، يوثق توثيقاً لقضايا معينة، هو يعلم أنه سيأتي بعد من يقدم أشياء مغلوطة، من يقدم أفكاراً باطلة، ونظريات باطلة حول خلق الإنسان مما أصله، عندما تصدق بأن أصلك قرد هل سيبقى لك احترام عند نفسك، ويبقى للآخرين احترام لديك؟ لا. أن تعرف بأنك خلقت بيد الله كما قال الله في آية وهو يتكلم مع إبليس {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}(صّ: من الآية75)، وخلقت خلقاً خاصا، وبنيت بناءً لم تأت في إطار تسلسل نهائي، بنيت بناء من جديد، يبني آدم، يخلقه من طين كما قال: {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}، مثلما تصلح [جمنة] أو أي شيء من هذه، أدوات الفخار، وترى بأن الله ذكر أنه استخلفه لمهمة كبيرة، في نفس الوقت أسجد له ملائكته، هنا ستعرف فعلاً أن الإنسان كرمه الله وهو قال بعد: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء: من الآية70) كرمه الله فيحس الإنسان بأنه كريم، بأنه عنصر مكرم، هنا ممكن أن الإنسان يحترم نفسه، ويحترم الآخرين، ويكرم الآخرين؛ ولهذا تراهم لا يكرموننا؛ لأنهم يروننا مجموعة من أحفاد قرود! هكذا عندهم، عندما لا يكرمون بقية البشر؛ لأنهم يعتبرونهم مجاميع شعوب هي أصلاً منحدرة من قرد، هل سيكون للقرود احترام عندك عندما ترى قطيعاً من القرود؟ ليس لهم احترام عندك.
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}(الأنعام:3)، هو الذي خلق السماوات والأرض {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} هو أيضاً إلهكم، وليس إله في عاصمة كذا فقط، في السماوات وفي الأرض {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} يحيط بكم علماً {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ماذا تعني مجموع الثلاث الآيات هذه؟ هو أن يكون الإنسان مستشعراً لشهادة الله، ورقابته عليه، مستشعراً لشهادة الله ورقابته، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت: من الآية53) أنه يعلم سرك وعلنك، ويعلم كلما تعمل، هذه القضية أساسية يعني: من الغايات المهمة في معرفة الله: أن يحصل لديك تذكر لله، استشعار لرقابته، وشهادته، وعلمه بكل ما تسر وتعلن، وبكل ما تعمل.
ألم تقدم القضية هنا أساسية؟ وتجدها هي تبدو القضية المهمة في موضوع معرفة الله، بينما قدم في موضوع آخر! ما الذي قدم وكأنه المهم؟ وكأنه الغاية الرئيسية في موضوع معرفة الله؟ هو أنه لا يدخل في نفسك أنه شبيه لأحد من خلقه! أليست هكذا، هذه القضية – كما نقول أكثر من مرة – هي قضية لا وجود لها في الذهنية نهائياً، لا وجود لها، ذهن الإنسان غير قابل على الإطلاق أن يشبِّه الله، ويمثله نهائياً، إذا ترك على فطرته، وفيما إذا تركه الذين يحاولون أن يقدموا عقائد تشبيهية، تركوها وسكتوا، تلقائياً سيجلسون أناساً طبيعيين، يقدم لهم معرفة الله بهذا التعبير، في نفس الوقت لن يحصل تشبيه على الإطلاق، بمعنى أنه من الأشياء المهمة في معرفة الله أن يصل الإنسان إلى استشعار رقابة الله، وشهادته، واستشعار أنه أمام ملك السماوات والأرض، الله سبحانه وتعالى، وخالق السماوات والأرض، وخالق ما فيهن، والعليم بكل شيء، المحيط علما بكل شيء. هذه المعرفة قد تعطي الإنسان آثاراً مهمة، أو نقول: هي التي ماذا؟ تجعله يتحرك بشكل صحيح، يكون خائفاً من الله، متقياً لله، محباً لله، مهتدياً بهدي الله، ذاكراً لله.
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}(الأنعام:4) لاحظ مثلاً بالنسبة للآيات هذه كواحدة من الآيات التي يأتي البعض يعمل تشكيكات حولها {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أليست الآية هنا قدمت بشكل يأتي الآخرون أحيانا يحاولون [يُشَطِّبُون] على الموضوع! إذاً هذه هي الخطاب الطبيعي للناس، يقدمها للناس لا يحصل تشبيه، ولا يحصل تساؤل، لا يحصل تساؤل، لا عن مكان، ولا زمان، ولا شيء لماذا؟ لأنه هكذا الإنسان مفطور، ولأن أساليب الكلام الذي قدم في القرآن الكريم في معرفة الله سبحانه وتعالى يكون بهذا الشكل الذي يملأ ذهنيتك بقضايا مهمة جداً، يجعلك منشغلاً باستشعار رقابة الله عليك، وعلمه بكل ما تعلن وتسر، وتكسب، وخوفك منه هو الذي يملأ ذهنيتك؛ لهذا لا نعتقد فعلاً بأنه يحصل التساؤلات عن أين، وعن مكان، وعن أشياء من هذه إلا من قبل آخرين، من قبل الفارغين فعلاً، من قبل الذين ليس لديهم لا شغل، ولا عمل، ممن قدمت معرفة الله لديهم بالشكل الذي لا يوجد لديهم استشعاراً في النفس، تأثير في الوجدان.
القرآن الكريم يخاطب وجدان الإنسان؛ ليكون فعلاً متأثراً، عندما يكون وجدانك متأثراً تستشعر رقابة الله، تخاف الله، تعرف مدى حاجتك إلى الله، هكذا لا يعد يحصل عندك أي تساؤلات أخرى نهائياً، لا يحصل أي تساؤلات.
لما قدمت معرفة الله بشكل بعيدة عن الثأثير الوجداني، بعيدة عن الخطاب العملي، قدمت مجرد أبحاث نظرية، وتفكيرات وتطانين عاشوا في حالة فراغ وإذا بهم ماذا؟ يأتي تساؤلات، ويأتي استشكالات ثم يتصور أنْ قد الناس مثله، أن أي ناس يسمعون تلك الآية سيحصل عندهم تطانين، ولا يعلمون إلا وقد صاروا مشبِّهين، أو قد هم مجسمين، أو قد هم محددين لله، أو أشياء من هذه، فيسرع لينقذهم، [فيلخبطهم] ولا يتركهم على فطرتهم.
قلنا في مرة سابقة: أنه مما يبدو أن من القضايا الأساسية في معرفة الله، في هذا الدين، بل الموضوع بكله: أن الأشياء كلها قدمت عملية، يجعل نفسك نفساً مليئة بماذا؟ باستشعار أشياء كثيرة، والإهتمام بأشياء كثيرة، وحاجة إلى الله في كل هذه الأشياء، وتوجه إلى الله في كل هذه الأشياء فلا يحصل عندك أي تفكير، أو تطانين نهائياً؛ لأن معرفة الله هي أيضاً مرتبطة بالجانب العملي، معرفة الله مرتبطة بالجانب العملي، جانب عملك في الحياة، تجارة، زراعة، سفر، أشياء من هذه، وعملك في سبيله، في ميدان الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، هنا ترى نفسك وأنت مزارع، أو ترى نفسك وأنت تاجر دائم الحاجة إلى الله، حاجة عملية، هذه الأشياء تكون بمعزل عن أن تترك ذهنك في حالة من الفراغ يمكن يحصل فيه تطانين أخرى، فتعيش حالة من الحاجة إلى الله، في نفس الوقت بالنسبة لك وأنت تعمل في سبيل الله لإعلاء كلمته، هنا تشعر في نفسك بحاجة مستمرة ودائمة إلى الله، وحاجة ماسة إلى الله، وأمامك قضايا كثيرة جداً، سواء وأنت تعمل في الحياة: تجارة، وزراعة، وأشياء من هذه، أو وأنت تعمل في سبيله، ما تعيش حالة من الفراغ فيحصل عندك تطانين، أو تساؤلات، أو أشياء من هذه.
لذلك نقول أكثر من مرة: يبدو منبع الأشياء هذه جاءت مِن عند مَن؟ من عند الفارغين، فلاسفة أو متكلمين فارغين فعلاً، يكون في مدرسة معينة، مرتبات مؤمَّنة، وعطايا من السلطة الحاكمة، كيفما كانت ليس له موقف منها في الغالب، لا يبالي، لا يتحرك في سبيل الله لإعلاء كلمته؛ لأن عنده أنه قد صار مشتغل بأهم عمل وهو أنه يحافظ على الناس ليعرفوا الله بتلك الطريقة التي قد رسمها، وأنه يحاول يجيب على الملحدين، أو يحاول أن يدعو المشركين إلى الإسلام، قد هذا عمله!.
فلا هو منشغل بعمل في سبيل الله فيرى نفسه بحاجة إلى الله، وهداه، والإلتجاء إليه، والاعتصام به، والاستعانة به، واستمداد نصره، وأشياء من هذه، ليست ذهنيته متعلقة بالله، ولا هو بحاجة إلى الله من الناحية الأخرى كمزارع، وتاجر يتحرك في هذه الحياة، إذا هو مثلاً متحرك في سفينة قد هي مليئة بالبضائع، قد هو يقول: [يا الله سترك عسى لا تأتي عاصفة، يا الله اصرف عنا كذا] لأنه عارف قد تأتي عاصفة قد تقضي على رأس ماله، أو تغرق السفينة سواء كانت بخارية، أو على الريح مثلما كان سابقاً. أو مزارع قد هو ينظر [يا الله عسى أنه سيأتي مطر] إذا ما جاء مطر وضع البذور في الأرض وتوكل على الله فيكون ذهنه دائماً مربوطاً بالله.
هنا يكون الإنسان بعيداً عن أي شيء آخر، أولئك لما لم يكونوا لا مزارعين، ولا تجار، ولا فلاحين، ولا مجاهدين في سبيل الله، مطننين وأمورهم مؤمَّنة لهم، يجلس دائماً معه تطانين، قد الباري أمامه، يريد يسأل كيف هو، ومن أين وكيف وإذا! ويتصور أنه ربما الآخرون قد يحصل عندهم أن الله كذا، لأنه في حالة فارغة.
لهذا تجد في القرآن الكريم كيف حشر أمام الإنسان أشياء كثيرة جداً، كثير من نعمه، ألم يتحدث عنها في القرآن؛ لأجل الإنسان يتذكر، فيتذكر أنها من الله، ويعطيك مجالات عملية، حركة في الحياة تستشعر حاجتك إلى الله، ويعظم عندك الله، وتحب الله، وتجل الله، لن يحصل عندك – وذهنيتك مرتبطة بالله – لا يحصل عندك تساؤل: أين، أو في، أو كيف، أو من هذه التساؤلات نهائياً.
معرفة الله مرتبطة أيضاً عملياً، لا يأتي الأخطاء إلا من عند الفلاسفة، والمتكلمين الفارغين، حتى في العصر هذا نفسه. بعد الثورة الصناعية، وبعد اكتشافات كثيرة، يحكون بأن المبدعين، والمكتشفين، والعلماء هؤلاء يؤمنون بالله، ويعظم إيمانهم بالله، كثير منهم، ووجدنا المنطق هناك نزل في الساحة إنكار لله، وأنه إذاً ما دام لم يمكن أن نعرف الله من خلال المعمل، والمختبر، والأشياء هذه، فما هناك شيء! هؤلاء فارغين، لا مبدعين، ولا علماء، ولا صناعيين، ولا شيء، الفارغين من الفلاسفة، وفي الأخير يقدمون إلحاداً، يأتي من عندنا فارغين أيضاً حقيقة، من عندنا فارغين، أعني: متأثرين بعلم بالكلام، ثم أخذ ورد حول هذا الموضوع!.
هنا يقدم المنطق من هنا بأنه هجوم على المادة! أليسوا يقولون: هجوم على المادة، والآخر هناك عنده هجوم على ما وراء المادة! المادة وجدناها في القرآن الكريم من أهم المظاهر التي تدفع بالإنسان إلى أن يعظم إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وأنه لا يمكن لمن يعمل في أشياء مثلاً في الطب، أو في الفلك، أو فيما يتعلق بعلوم الطبيعة: جيولوجيا، أو علوم بحار، أو أي شيء من هذه، إلا ويرى مظاهر تبهره، يزداد إيمانه بالله، وفعلاً خرجت كتب تحكي هذه، وقصص كثيرة تحكي من كانوا يؤمنون.
إذاً ليسوا ملحدين، الإلحاد جاء من عند الفلاسفة الفارغين، وسياسيين لهم أهداف أخرى؛ ولهذا يقولون فعلاً: أن اليهود وراء هذه، وراء الثقافة الإلحادية، والفلسفة الإلحادية، وأشياء من هذه، هم كانوا وراء الماركسيين.
إذاً من هذا نعرف فعلاً بأنه… ولهذا في الأخير قدم عند البعض بأنه إذاً زحمة المادة وثورة المادة من خلال هذه الصناعات ربما تقضي على الله، لا، اعرف من أين منبعها؟ منبعها من عند الذين لا يعملون في هذه الحياة، في المجالات العملية؛ لأن الله جعل معرفته عملية. إذا قد الإنسان يتحرك ويعمل، وأنت فلاح بفرستك تجد كثيراً من مظاهر قدرة الله، ونعمته أمامك، وأنت عالم في أي مجال من المجالات من العلوم هذه تجد كذلك، وأنت تاجر تجد كذلك، تسافر في البر والبحر تهتدي بالنجوم، وفي نفس الوقت تطلب من الله أن يستر عليك لا يلقاك متقطعون، أو وحوش، أو أي شيء من الكوارث.
فجاء من داخلنا هجوم على المادة، وأن القضايا أساساً عقلية، عقلية، وأن الأساس هو العقل، والآخرون قالوا: لا، الأساس هو المادة، وإذا أي شيء لا نحسه، ولا نراه، ولا ندركه من خلال المختبر، فلا وجود له!!.
هذا كله.. يجب أن نفهم وبالاستقراء عندما تبحث تجد هذا منطق الفارغين؛ لأنه كيف سيقول: لا وجود لما لا يجده في المختبر، والذي في المختبر، أيّ عالم مثلاً في الفلك، أليس في أكبر معمل أمامه يتلمس فيه مظاهر خلق الله، وقدرته، وحكمته؟.
إذاً فيجب أن نفهم هذه القضايا نفسها، نفهمها حتى لا نصل إلى ما وصل إليه الآخرون، الذين صاروا يعتبرون أن الثورة الصناعية، وزحمة الإبداعات ستقضي على الدين نهائياً، نحاول نتشبث بالعقل، نرد عليهم، وأن القضايا هي غيبية، والقضايا هي كذا، وتنكروا للمادة، وعصر المادة، وزحمة المادة، ومن هذا القبيل، حتى وقعنا في ضلال بسبب الفارغين هناك، وبسبب الفارغين عندنا حقيقة.
لو يعمل أحد استبياناً في أوساط الناس، هل سترى أحداً عنده تشبيه لله؟ أو تحديد لله؟ أبداً، إلا أن يأتي طرف يقدم عقيدة باطلة، ويزحمها، ويقدمها عقيدة مرتبطة من جهة الله يقول لك: يجب أن تؤمن بكذا، أليسوا يحتاجون إلى الطريقة هذه؟ يحتاج إلى أن يخليك تتصور الله، وأشياء من هذه، يقدم لك هو من عنده، ويزحمها لك في ذهنك كعقيدة يجب أن تعتقدها، هذا نفسه دليل على أن التشبيه لا مكان له في الذهنية؛ لأنه يحتاج إلى أن يقدم، ويحتاج يكون بعده من يتابعه يخليه مشبِّه على طول، لو يفرق منه قليلاً لذهب، يذهب التشبيه نهائياً.
الإنسان أعماقه واسعة، أعماقه واسعة، والله هو الذي فطره، هو الذي خلقه، هو الذي برمجه تماماً، وغرز فيه معرفته، لا مكان للتشبيه لله في ذهنيته على الإطلاق، لا لتشبيهه، ولا لتحديده، ولا شيء نهائياً.
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الأنعام:4 – 5) هو بين هناك بأن الله سبحانه وتعالى يأتي بالآيات، ولاحظ دائماً منطق القرآن الكريم كله يأتي بشكل آيات بينات، نفس كلمة آيات تعني ماذا؟ علامات، بينات غاية في الوضوح، ما تأتيهم من آية من آيات الله، أي: كلمة آية هي تحمل في مضمونها وضوحاً، معناها: علامات، ومع هذا تجدهم معرضين! {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وهذا في السورة هذه، وهي من السور المتقدمة، يذكر: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، سيأتي حقيقة كل ما كانوا يسخرون منه، سينكشف في الواقع، مع مسيرة الحياة سينكشف، سيسخرون هم من أنفسهم، ويتجلى بأنهم هم من يجب أن يسخروا من أنفسهم.
عندما يقول: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} كلمة الحق هي كلمة واسعة جداً، ولا تعني هنا أن الإشكالية بأنهم منكرين لله، لا يوجد، الحق الذي قدم إليهم، هذا القرآن من الله، رسالة محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، التفاصيل في داخل هذا الدين، هذا ما تعنيه كلمة الحق.
{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} تأتي الشواهد من واقع الحياة على أحقية هذا الحق، وعلى ثبوت هذا الحق، وعلى أنه حق كما قال في آية أخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت:53)، إذاً هذه نفسها بعد أن تصدرت السورة بقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَِ} ألم يذكر السماوات والأرض؟ هذه تعطيك نظرة إلى الحياة هذه، تستقرئ من خلال أحداثها، من خلال المتغيرات فيها، ما يتجلى فيه الحق بمختلف التفاصيل، هذا هو الميدان الواسع، والميدان الهام الإيجابي الذي يزداد الإنسان به بصيرة، وإيماناً ووعياً، هذا نُسِف، النظرة هذه نُسِفت؛ لأنهم ربطوا موضوع حق، وموضوع أن تنظر إلى هذه الحياة بتفاصيلها: للإستدلال على أن هناك الله، ويجلس طول عمره وهو محاول يثبت أن هناك الله! هنا يقول: فعلاً الحياة هي ميدان واسع جداً، يتجلى فيها كل الشهادات على أن ما قدمه هو حق، والحق الذي لا ريب فيه، هو الحق الذي البشر بحاجة إليه، هو الحق الذي ينسجم مع فطرة الإنسان، ومع سنن هذا الكون.
إذاً نلمس من هذه الآية أول خسارة خسرناها على أيدي المتكلمين هذه، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(يونس: من الآية101)، {أَفَلا يَنْظُرُونَ}(الغاشية: من الآية17)، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا}(قّ: من الآية6)، وأشياء من هذه، لماذا ننظر؟ قالوا: لتستدل، ويثبت لك أن هناك الله! القضية المفروغ منها تماماً، ألم يشغلونا في لا شيء؟! أشغلونا بلا شيء فعلاً في قضية هي منتهية، هي ثابتة، نبحث عن الله والله قد فطرنا على معرفته، نحن وكل البشر، هذه واحدة من الأشياء، أو تبحث بعد أن لا أحد يشبِّه الله، والله هنا في القرآن من خلاله، والإنسان نفسه، هذه القضية مستحيلة. إذاً لماذا تشغلنا دائماً وأنت تريد أن لا يحصل تشبيه، وأن تزيل التشبيه، وعندك أن هناك آيات تفيد التشبيه، وأشياء من هذه، يشتغلوا في لا شيء، هذه هي الخلاصة، يشتغلوا، ملاحقين لا يحصل كذا، لا يحصل كذا، لأجل لا يحصل تشبيه، أو تفهم تشبيهاً، وأشياء من هذه، وليس هناك مكان للتشبيه نهائياً.
إذاً أليست قضية محسومة؟ يضيعون أوقاتنا، ويضيعون قضايا كبيرة لدينا، ويصرفون نظرتنا عن القضية الهامة، وتراهم في نفس الوقت ضحية هذا الانصراف هم فعلاً، لم يعودوا يبصرون في الحياة الأشياء التي يتبين من خلالها مظاهر تدبير الله الواسع، فيرون كيف يحصل لأوليائه من تأييد، يرون كيف يضر أعداءه، يرون كيف التغييرات التي كانت غير متوقعة، والتي كانت في الذهنية مستحيلة، ويرون، ويرون..، إلى أن صاروا هذه الأشياء كلها لم يعودوا يرونها؛ لأن ذهنه كله مشغول يبحث عن الله، يثبت أنه موجود، وهو يقول في القرآن: الظاهر، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}(الحديد: من الآية3) هو الظاهر، أظهر من مخلوقاته، بالنسبة لذاته لا تدرك ذاته، ولا يمكن للإنسان، ولا يحصل في باله أن يتصور على الإطلاق، ذهنيتك مقفولة تماماً، ذهنيتك مقفولة تماماً. في منطق الإمام علي في نهج البلاغة فيه عبارة توحي بهذا فعلاً لا يمكن أن يطلع في ذهنيتك أي صورة إلا صورة من الأشياء المشاهدة أنت تعرف بأنها ليست الله.
إذاً ما هناك تشبيه، فقط الآخرون الذين يقدمون عقائد باطلة، يجعل الصورة التي هي صورة من أشياء، خليط من أشياء من مشاهداتك، أنت تقضي بأن هذه الصورة ليست الله، يقدم لك بأنه لازم أن تعتقد أن الله كذا.
عندما يعمل الإنسان استبياناً في أوساط الناس يجد ما هناك مكان للتشبيه نهائياً، الذين لم يقرؤوا علم كلام ما زالوا على فطرتهم، وهم يقرؤون القرآن، أليسوا يقرؤون القرآن ويمرون بهذه الآيات؟ اذهب انظر في أوساطهم، هل هناك تشبيه، أو تحديد، لا يوجد نهائياً، إذاً فالناس خسروا خسارة كبيرة جداً في صرف النظرة، وصرف الأذهان، وصرف التفكير عن المجال الذي يريد القرآن أن يشتغل فيه، وهو ميدان واسع، وميدان أساسي بالنسبة للمؤمنين لو توجهوا إليه، ميدان أساسي لكثير من الإبداعات، والاختراعات، والاكتشافات، وبناء الحياة هذه، فيسبقون الآخرين.
لاحظ كيف جاءت العبارة {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} هل يمكن أن تأتي العبارة بمعنى كذبوا بالله، في أن هناك الله؟ {بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}، هل يقال لله حق جاءهم، لا يقال إن الله حق جاءهم، لا تأتي بهذه العبارة، لكن لا، الحق الذي هو من جهة الله نزله، هذا القرآن، والرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، ومضامين هذه الرسالة، كذبوا بها، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الأنعام: من الآية5)، وهذه سنة.
إذاً الآن أليست تتجلى لنا أشياء رهيبة جداً تبين هذا القرآن العظيم؟ أعني: نستفيد من خلال تأملاتنا ما يجعلنا فعلاً نرى هذا القرآن عظيماً جداً، ونرى أن الحق هو من عند الله، وكل ما عند الناس هو خسارة، كل ما عند الناس ويقدمونه، ويتشبثون به، من أشياء هي باطل، وضلال، أنها خسارة، وتنتهي إلى خسارة.
لاحظ ما أجمل عندما نقرأ الآيات عن بني إسرائيل ونحن نرى في التلفزيون ماذا يعمل بنو إسرائيل، أليس هذا من {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ومن مصاديق الآية الأخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فـأصحاب نظرة المتكلمين لا يستفيدون من هذه، مقدرين أن الدنيا كلها، عندهم أن الدنيا كلها، كلها، الفضاء هذا كله؛ لتعرف أن هناك الله! هذا الموضوع الذي يكفي فيه نعجة واحدة، نعجة على طريقة الاستدلال: محدِث وحادث وحدث، نعجة واحدة تكفي في هذا الموضوع، إذاً حركة هذا العالم، التغييرات الرهيبة، والتقلبات الرهيبة كلها أصبحوا لا يرونها.
عندما يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أليس معنى هذا أن الإنسان يجلس مستقرئ لهذه الحياة، وأحداثها، والتغيرات فيها؟ يعرف كيف سيتجلى له الحق في كل موضوع عملياً، واقعاً، شواهد، شواهد يومية، هذه هي التي تعطي الإنسان معرفة، وتوسع معرفته، وميدان واسع جداً لتفكيره، ولتأملاته.
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}(الأنعام:6)، هذه واحدة من القضايا: أنه يبين لهم المتغيرات في الحياة {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}، أمم سابقة أهلكناها بسبب تكذيبهم، أمم سابقة كانت بالنسبة للحياة لديها مثلما ذكر هنا: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ}، هؤلاء أهلكناهم؛ ليأخذوا عبرة بأنه قد يحدث عليهم ما حدث على تلك الأمم السابقة، بل في آية أخرى يذكر فيها بأنه يبقي من آثار الأمم السابقة، يحفظها الله أن تبقى آثار أطلال، أو آثار من هذه التي يسمونها آثاراً أليست واضحة؟ اسمها آثار؛ لتأخذ عبرة من هذه: أن الله هو الذي يحافظ عليها، ليأخذ الناس عبرة وهم في حركتهم، ومروا من منطقة كان فيها ثمود، أو كان فيها قوم ممن ما يزال في التأريخ ومن خلال ما قدم القرآن معروف بأن هذه أمة كانت كذا، ثم أهلكها الله، فيأخذون عبرة من هذه؛ ليخافوا الله، فيؤمنوا، ويقبلوا هذا الحق الذي جاء به.
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}، هنا يذكر بأنه يأتي آيات كثيرة آيات للتذكر {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}(الأنعام:4)، وأنهم في واقعهم فئات منهم على هذا النحو، تلك الفئات من الناس لا تنفع معهم الآيات نهائياً {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الأنعام:7) إذاً هذه مما لها أثر كبير، وفائدة كبيرة بالنسبة للإنسان، تحول بينه وبين أن يحبط، عندما تكون تدعو آخرين، وتوجه آخرين في أي منطقة من المناطق، ويكون هناك ناس لا يرضى يسمع، ولا يبصر، إذا الإنسان ليس فاهماً من خلال هذا التشخيص الإلهي لفئات الناس قد يرجع على نفسه فيقدِّر بأنه [يبدو أن هذا العمل بكله ليس مقبولاً، أو ليس وقته، أو ننتظر إلى أن يأتي وقت مناسب]، أو بأي عبارة فأحبط هو! اعرف بأنه قد يكون فعلاً في الناس هكذا، أنت لا [تحنب] نفسك فيه، ولا تحبط في مواجهته، اشتغل مع آخرين، وأنهم على الرغم من أنهم هكذا: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}، لن يؤمنوا، ولن يقبلوا، وسيطلعون لهم دعاية أخرى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
وعندهم مقترحات: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}(الأنعام: من الآية8)، لماذا نبي هكذا، المفروض أن يكون معه ملك، لماذا لا يأتي معه ملك، أو ينزل الله بدله ملكاً؟! {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ}(الأنعام: من الآية8) لا ننزل الملائكة إلا عندما تكون ضربة، وسينتهي الموضوع، لا يعد يقبل فيها أن يؤمنوا، ولا يقبل منهم إيمان، يضربون نهائياً كما جاء في الآية بعد: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ}، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً}(الأنعام: من الآية9) وتحصل عندهم الإشكالية السابقة نفسها {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}(الأنعام: من الآية9).
لكن ما هناك حاجة إلى هذا، الآيات واضحة، وآيات بينات في كتابه، فيما يتركه من آثار الأمم الماضية، وفي مظاهر هذه الحياة، آيات كافية، وفوق الكفاية؛ ليعرف الإنسان بأنه أحياناً عندما تقدم لك قائمة من المقترحات، تعطي أولويات لعملك، معظم ما يأتي من جانب الذين لا يستجيبون، لا يستجيبون، وليس مستعداً أن يستجيب، ثم يأتي ليقول لك: [لماذا لا تعملوا كذا، لماذا لم تعملوا كذا، لماذا لا تروحوا تجاهدوا في فلسطين؟ لماذا لا تروحوا العراق؟ لماذا لا تقولوا كذا]؟ هي هذه الفئة المبطلة هي فئة المقترحات، يقدم لك قائمة أولويات وهو غير مؤمن بالموضوع بكله.
معنى هذا أنك لا ترجع على نفسك هنا تقول: [يمكن أن يكون هذا صدق، يمكن أنه صدق أننا نبدأ نعمل كذا]، لا، نقول: يجب أن تلغي من ذهنيتك تماماً قبول أي أولويات تقدم من جهة هذه الفئة نهائياً، ليس إليهم موضوع أولويات في العمل، [إبدأ بهذه وإلا فلسنا معك.] قل له: تعال ابدأ أنت، ابدأ قل هكذا، ارفع معنا شعاراً، على الأقل حتى نكون نسمع لك عندما تقدم مقترحات، إما أن تكون هناك معارض وتقول: ارفعوه بعد الصلاة، ارفعوه خارج في الشارع، أليست تأتي مقترحات من داخل هذه النوعية؟ لكن هو لن يرفعه، لا في المسجد، ولا يحتمل أن يرفعه بعد الصلاة، ولا في الشارع! معظمها مقترحات تأتي من فئة هم ليسوا متحركين، ولا حتى في الشارع.
يقدم فئات المؤمنين هنا، وباعتبار أن القضية فيها كفاية، تبيين وهدى بشكل لا يعد لديهم فكرة تقديم أولويات، إذا هناك مسيرة عملية ممكن مقترحات معينة لكن ليس لديهم هذه الانطلاقة، لدى هذه الفئة [إبدأ بكذا وإلا فلن ندخل معك، اعمل كذا وإلا فلن نكون معك] هذه لا تحصل عند فئات المؤمنين؛ لأن فئات المؤمنين متبعين، وفي نفس الوقت يقيِّمون، يقيمون الأوضاع بشكل عام، فمتى ما حصل له رؤية معينة قدمها، ما هناك قائمة تقديم أولويات عندهم، لا يحصل من داخل المؤمنين أولويات، يحصل أحيانا التساؤلات هذه، ويقول لهم أحيانا: هذا التساؤل في غير موضعه {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}(المائدة: من الآية101).
أما الفئة الأخرى فهي فئة مقترحات، وهي غير مؤمنة بالموضوع، ولا هي متجهة فيه، تعطيك أولويات، فالإنسان إذا لم يكن فاهماً يكون عنده [والله يمكن أنه صدق ربما أننا لو عملنا كذا لساروا معنا]، قد يسير معك مؤقتا ولا تدري وجلس، ويكون تحولك إلى اعتبار أولويته له أثر سلبي في مجالات أخرى.
لاحظ هنا كيف الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في مرحلة دعوته حتى نعرف أساليب الدعوة كيف هي، وفي الواقع معناها أساليب إقامة القسط؛ لأنه قد أصبح معنى الدعوة، يعني: الوعاظ هكذا لمجرد الوعظ، أساليب كيف يكون الناس أمة قائمة بالقسط، شهداء لله، هذا الشيء المهم، الإنسان بحاجة إلى أن يكون لديه رؤية متكاملة بالنسبة للإنسان أمامه، القرآن الكريم شخَّص المجتمعات، وشخص الإنسان أمامك بحيث تعرف أن هذه النوعية قد تكون كذا، من أجل لا تحبط أنت، تستمر في عملك، لا تكون أنت ترى هذا النوع وكأنه يمثل البشرية جميعاً، أترك هذا النوع لوحده يمكن تتجاوزه، ثم يهمش تماماً. وهذا الذي حصل في صدر الإسلام، ألم يتهمش كل أصحاب المقترحات هذه؟ {لوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}(الأنعام: من الآية8)، لولا كذا.. هؤلاء تهمشوا هناك، يوجد بشر كثير سيستجيبون، وهؤلاء ينتهون في الأخير، الآخرين انتهوا على جنب.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}(الأنعام: من الآية10)، لا يكون عندك أنك أمام أول إشكالية تحصل أمام رسول، من قبلك حصل لرسل استهزؤوا بهم، واستهزؤوا بآياتهم، وسخروا منهم، أي: فمعناه واصل، لا تبالي، هذه قضية غير جديدة، فلا ترجع على نفسك وتقول [لماذا إما أنا] أو [ما هو السبب؟] لا، واصل في عملك وأنت ستعرف من خلال عملك؛ لأنه يقدم في نفس الوقت كيف تكون مسيرة الإنسان بشكل صحيح، كيف تكون أساليبه صحيحة، لكن هناك فئات لا ينفع معها أي أسلوب تختاره مهما كان، لو اقترحت أن ينزل كتاباً من السماء في قرطاس ويلمسونه لن ينفع فيهم!. الإنسان يجمع بين القضيتين، يعرف كيف هي الأساليب الصحيحة، وفي نفس الوقت يعرف الناس أن فيهم من لا ينفع معهم أي أسلوب؛ لتستمر، لا يحدث لك إحباط، ولا يأس.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الأنعام:10) وهنا يعطي الناس أملاً {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الأنعام:5)، وهنا أيضاً: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، تكون عارفاً بأن مصير الساخرين هؤلاء في الأخير أن يحيق بهم أمر الله. خلاصتها ماذا؟ خلاصتها أن تبقى أنت مستقيماً، وواثقاً من نفسك، وواثقاً من طريقتك، ومواصلاً لعملك، لا إحباط، ولا يأس، ولا تراجع، ولا ارتباك بين محاولة أقلمت وضعك وعملك استجابة لمقترحات من جانب الآخرين، مقترحات أولويات من جانب هؤلاء الرافضين والساخرين.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(الأنعام:11)، هذه واحدة من آيات النظر، أليست واحدة من آيات النظر؟ النظر في القرآن يجب أن تعرف متى يقدم، وفي أي موضوع يقدم، وإلى أي شيء يلفت نظرك، وليس أن نأخذ منها: [فدل على وجوب النظر] والنظر ماذا؟ في الأخير يشغِّلونه في غير موضعه، يجعلونك تنظر نظر قَلَبْ، وتضيع وقتك في قضية لا حاجة إليها، قضية محسومة أساساً.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، سترون آثارهم، آثار المكذبين. {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:12)، عندما يقول لهم: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هم في نفس الوقت في آيات أخرى يقولون: هي لله، لكن هنا يقول: أنت قل لله، ولو قبل ما يقولون، ولو سيقولونها، قل أنت.
هذه قضية أساسية، أول شيء لا يقدم الموضوع وكأنه بطريقة استدلالية، أن تنتظر من الآخر أن يكون هو الذي يقتنع بطريقة معينة استدلالية، هذا شيء، الشيء الثاني بأنك لا تعود نفسك بأنه لا يكون للشيء قابليته عندك، وثقتك الكبيرة به، وثقتك من نفسك إلا إذا اقتنع الآخر، بحيث لو افترضنا وقالوا شيئاً آخر تضعف ثقتك، هذه أحياناً تحصل عند الإنسان إذا عوَّد الإنسان نفسه أن لا يكون ما لديه محط ثقة لديه، لأن هذه قضية مؤثرة جداً، إذا كنت واثقاً بما أنت عليه ستنطلق، إذا أنت يحصل عندك تردد، سيحصل تراجع، ويحصل فتور في الموضوع، وهنا عندما تكون أنت مستبصراً لست بحاجة إلى أنه لازم أن الآخرين يقتنعون حتى أعرف بأنني على صواب.
هذه قضية قد يتعرض لها الإنسان، وفعلاً حصلت هذه، قد تكون أيضاً واحدة من المؤثرات داخل الزيدية أنفسهم في موضوع الاستدلال، الاستدلال، الاستدلال..، حتى وصلنا إلى درجة أنهم لم يعودوا يصدقون أي شيء إلا بعد ما ينظرون هل الآخرون رووه وإلا فكأنه غير صحيح!!.
وهنا يأتي الحديث عن يوم القيامة وهو يخاطب من؟ أليس هو يخاطب مشركين، ما زالوا منكرين ليوم القيامة؟ وهنا يذكر يوم القيامة، هل هذا أسلوب منطقي؟ فوق المنطق، وأعلى من المنطق؛ لأنه نزله الذي خلق الإنسان، وهو يعلم بالإنسان {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}(الملك: من الآية14)، يهدده بأنه سيرجع إليه يوم القيامة وهو ما زال في نفس الوقت ينكر يوم القيامة؛ لأنه ليست القضية أن تقدم استدلالاتك على ما يبرمجوه في كتب المنطق وعلم الكلام، لا، القضية هي أن تعرف الإنسان، وتعرف كيف تتعامل معه، ومن أي جهة تأتي له، هذا الإنسان فيه أشياء في نفسه لا نعلمها، يؤثر فيه التخويف بالشيء الذي يبدو وهو منكر له، يؤثر فيه التخويف به، يوم القيامة يخوَفُون به، ويخوَفُون بالنار وهم ما يزالون كافرين، في هذا القرآن.
والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بجهنم التي يخوفون بها أليست قضية قرآنية؟ ومع هذا يخوفون بها، ويقول لهم هكذا يذكرهم بها، ويخوفهم بها، معنى هذا أنها ستترك أثراً في نفوسهم، يترك أثراً في نفوسهم.
هذا من أهم أساليب القرآن الكريم في التعامل مع الإنسان وخطابه، يأتي له من كل جهة، ترغيب وترهيب، حتى ولو لم يكن قد آمن بموضوع جنة، ولا موضوع نار، ولا قيامة، ولا جنة، ولا شيء من هذه، يذكِّره، ترهيب وترغيب، وأشياء كثيرة جداً، لا يأتي على أساس منطق الفلاسفة التي يسمونها: مقارعة الحجة بالحجة، واستدلال عقلي منطقي هكذا، يكون من رأس إلى رأس، ليس من رأس إلى رأس، هذا من الله إلى وجدان الإنسان، إلى نفسيته الواسعة، هو لا يتعامل مع رأسه، الأشياء الأخرى تكون تعاملاً مع ماذا؟ جدل وحجاج من رأس إلى رأس.
{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، يبين بأنهم خاسرون الذين لا يؤمنون بهذا، هذا مما يرد على المتكلمين في أسلوب التعامل مع الإنسان؛ لأن هذا الخطاب يوجه إلى المشركين وهم ما يزالون منكرين لموضوع القيامة، بل كان استبعاد القيامة من أوسع المواضيع داخل القرآن، استبعادها، ثم يأتي بالشواهد على أن هذا اليوم سيحصل، واسع في القرآن، ومع هذا يهددهم به. هذا يرد على المتكلمين في أسلوبهم: [أنه ما يمكن أنك تستدل على فلان بقضية إلا وقد صار مؤمناً بها أولاً] هذا من أسس الاستدلال عندهم: [أن يكون أولاً مؤمنا بها]! قد يكون هذا في قضايا أخرى، أما في القضايا هذه، قضايا الدين، دعوة الإنسان، التأثير على الإنسان، حمله على أن يؤمن بهذا الدين، هذا الأسلوب الحكيم هنا، أسلوب يخاطب الإنسان بشكل عام، ويأتي له من كل جهة، ويخاطب مشاعره، ووجدانه، ويتعامل معها.
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(الأنعام:13)، يبين هنا أنه الملك، أنه المدبر، أنه القدير على كل شيء، هنا يهددهم بشيء حتى ولو لم يكونوا مؤمنين به، هم مؤمنون بالله، أليسوا مؤمنين بالله؟ يأتي أشياء كثيرة جداً تصل بالإنسان إلى درجة أن يؤمن من داخل ولو ما زال ينكر، وهذا ما سيأتي بعد، وهذا مما يدل على أن هذا أرقى أسلوب، أسلوب أنبياء الله، وأسلوب كتب الله هو أرقى أسلوب في التخاطب مع الآخرين، أنه حتى وإن كان جاحداً بأنه حق ينفذ إلى أعماق نفسه رغماً عنه {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام: من الآية33).
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام:14) وهذه القضية أساسية: أن يبين لهم بأنه هو الشخص الأول الذي يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته وحده، أنه هو في المقدمة، بمعنى أن الشيء الذي يتحرك فيه، قضية لديه ثابتة، لا يتزحزح عنها، ليست مجرد فكرة طرأت، [تخزينة] جاءت لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فجاء يعمل له تطانين ثانية، هنا يبين أن القضية لديه ثابتة لا يتراجع عنها، ويبين كيف أنه يسخر من الطريقة الأخرى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}، هذا شيء، يبين لهم بأن القضية هو واثق من نفسه فيها، وثابت عليها، هذا مؤثر في الطرف الآخر، ومؤثر في الأتباع أيضاً لا يكونون متشددين معه، ثم يظهر لهم أنها كانت مجرد تطنينة فقط، طريقة ثابتة عنده.
الطرف الآخر كان يحاول يعمل عروضات، ألم يحصل هذا؟ أشياء معينة، [قد ربما تكون تطنينة هذه، أو فورة شباب، أو طموح لشيء] ألم يعرضوا عليه إذا كان يريد مالاً، أو يريد يتزوج بأجمل امرأة فيمكن يزوجوه، أو يريد ملكاً ملكوه عليهم، عرضوا عليه الأشياء هذه، ويسكت، ويترك ما يدعو إليه! هنا يقدم بأنه مؤمن بالقضية هذه التي يتحرك فيها، وأنه مأمور من جهة الله بها، وليست فكرة عنده هو، أنها فكرة طرأت، لا، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، ليست تطنينة، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(الأنعام:15)، هذه قضية هامة جداً في موضوع الدعوة: أن يفهموا بأنه ليس هو الذي يملي أشياء من هذه عليهم، وأنها فكرة طرأت له، أبداً هو مأمور من جهة الله، وأنه يخاف الله فيما لو فرط {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وهذه يكون لها أثرها؛ لأنه بالنسبة للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) أنبياء الله هم لا يكونون أشخاصاً أعني: بالشكل الذي قد تراه مؤمناً بقضية، ويكون عندك أنه شخص غير متزن مثلاً، يكونون أشخاصاً متزنين، وأشخاصاً معروفين في المجتمع أنهم أشخاص فاهمين، وأشخاص أفكارهم متزنة، وأحلامهم كبيرة، وأشياء من هذه، فيكون عندما يقرر هو قضية ويقدمها لك قضية ثابتة، وقضية هامة، هذه تترك أثراً في النفوس، لأن منطلق الكلام يكون أثره على حسب الجهة التي صدر منها.
وعندما يقول: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، وفي نفس الوقت يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، هذا الإنسان وإن كان آخرون يقولون: مجنون، أو يقولون: ساحر، هو شخصية ثانية، أمامك مجتمع، أليس هذا الذي حصل بعد؟ ألم يسلموا في الأخير؟ تلك النوعية لا يعني أنها تمثل الكل، وتمثل كل أفراد المجتمع، الذين حكى عنهم في البداية أنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الأنعام: من الآية7)، أو ناس يقولون: مجنون، وناس يقولون: شاعر، هناك ناس يعرفون محمداً (صلوات الله عليه وعلى آله)، إنساناً على مستوى عالي جداً من الفهم والذكاء، والاتزان، وأنه ليس إنساناً ممكن أن يلصق به دعاية من دعاياتهم، عندما يبدو بأنه مهتم بقضية إذاً هي قضية هامة، أنه يخاف من كذا إذاً هي قضية لا بد أن تكون واقعية؛ فيكونون قريبين لأن يستجيبوا.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}(الأنعام:16)، هنا يدخل في أذهانهم موضوع القيامة، موضوع العقوبة الشديدة من أول ما يلفت أنظارهم إلى تاريخ الأمم الماضية، وآثارها، بالنسبة للعقوبات هنا في الحياة، وبالنسبة لليوم الآخر، ألست تجد هذا الأسلوب من أول حركة الرسالة؟ أن يذكِّر الناس بخطورة العواقب السيئة عليهم في هذه الحياة وفي الآخرة.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}(الأنعام:18)، هنا عندما تتأمل موضوع القرآن كله، أليس موضوع حركة، موضوع دعوة؟ موضوع… أعني: من يتحرك في هذا المجال قد يحصل لديهم أشياء كثيرة تطلع في الذهنية؟ خائف ضر مثلاً؟ الضر الذي يجب أن تخافه هو ما يمكن أن يأتي من جهة الله، أما شيء قد يأتي من جهة الآخرين فالله قد يكشفه، الشيء الذي قد يأتي من جهته هو، هو الذي لا يستطيع أحد أن يكشفه عنك. إذاً فأين أولى أن أحسب حساب ضر من عند الناس قد يمنعه الباري من البداية، أو قد يكشفه عند وقوعه، أو الضر الذي لا يكشفه إلا هو؟ الضر الذي من عنده الذي لا يكشفه أحد من البشر على الإطلاق. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}(يونس: من الآية107)، كما قال في آية أخرى، هو قادر على أن يعطيك خيراً وفي نفس الوقت لا أحد يستطيع أن يرد ذلك الخير عنك.الإنسان هو يخاف في موضوع الحركة موضوع ماذا؟ الشر والخير، الضر والنفع، أليس هذا حاصلاً، لاحظ هنا كيف يتحرك في كل جوانب القضية، كل ما قدم يمكن يبدر إلى ذهنك هو يعلم، يحاول يعطيك رؤية فيه.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، وهو الذي يأمرك أن تتحرك على هذا النحو وأنت تتحرك في سبيله، وهو يعدك بتأييده وهو القاهر فوق عباده. إذاً بالتأكيد هو القاهر فوق الأعداء، أليست هذه واضحة؟ عندما تعتقد: الأعداء كباراً، وإمكانياتهم كبيرة، وهم كثير، وأشياء من هذه، إفهم بأنك تتحرك في سبيل من هو قاهر فوقهم؛ لأجل لا يحصل عند الإنسان أنه في الأخير قد أصبح يرى وكأن أولئك كباراً ليس فوقهم كبير، وقاهرين وليس فوقهم قاهر، هذه قد تكون حاصلة. لاحظ إذا سألنا أحداً أليس الله أكبر منهم؟ سيقول: نعم، لكن في الواقع هو يعتبرهم كباراً وناسي أن الله أكبر منهم! تكون القضية كمعلومة لديه فقط، أن ينطلق على أساسها عملياً، لا يرضى، أليست هذه حاصلة عند الناس؟ أليس الله أكبر من أمريكا؟ سيقول: نعم، صحيح، أليس الله قاهر فوق أمريكا وإسرائيل، وفوق عباده جميعاً؟ سيقول: صحيح، لكن صحيح هنا فقط، أما من داخل عمله، موقفه منهم وكأنهم قاهرين، ليس فوقهم قاهر، وكبار ليس فوقهم أكبر منهم.
إذاً القرآن الكريم عندما يتأمل الإنسان ماذا يبني؟ أليس هو يبني إنساناً عمليا؟ ويبني أمة قوامة بالقسط؟ أو هو يبني مفتين ليس لهم دخل من شيء؟ أو قارئين هناك ليس لهم دخل من شيء؟! كله حركة، كله توجيهات عملية، بناء الإنسان كإنسان، وبناء الأمة كأمة.
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}(الأنعام: من الآية19)، شهادة على أن ما جاء به حق، شهادة على أن ما يدعو إليه هو حق، شهادة على أن مواقفه حق، فأن يكون الله هو شاهد لا يحتاج إلى شهادة أحد من الآخرين نهائياً.
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام: من الآية19) أنذركم أنتم وكل من بلغهم هذا القرآن وإنزاله، أي: رسول للعالمين، رسول للناس جميعاً، وعندما يقول: {وَمَنْ بَلَغَ} فهل القضية تعني فقط: من بلغه صدفة، أو بلغه كيفما جاء؟ إنها قضية تحتها أيضاً – مثلما تقول – برنامج عملي في كيف أن يبلغ هذا القرآن الآخرين؛ لأنه عندما تقرأ في القرآن تجد أن الله يقول عنه: أنه للعالمين، وأن رسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) رسول للعالمين، إفهم بأن هناك خطة بأن يكون للعالمين، ليست متروكة للصدفة، أو لمجرد فكرة، أو إذا حصل صادف جاء إنسان نشيط، أو أحد لقي أحداً، لا، إنه قال: أن يكونوا قوامين بالقسط، يبني أمة هي بالشكل الذي يمكن أن تتحرك بالقرآن للعالمين جميعاً، يعني: عنده خطة عملية لأن يكون للعالمين، خطة عملية لأن يبلغ آخرين، ليست فقط لمن سمعه، أو صادف.
ولاحظ كيف المسألة كلها تقوم هناك، نحن الآن أمام الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) والآخرين، يشخِّص لنا النبي مع آخرين، نجد الشيء الذي يظهر لنا في شخصية النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) وهو يوجه، يراعي كيف يكون منطقه مع الآخرين، دائماً يأتي بقضية ماذا؟ ربطه بالله، بالله هكذا، لا يظهر هو منفرد {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، أليس هو يربط القضية بالله؟ أنه إنما هو نذير، بشير، داعي إلى الله، رسول من الله، نزل إليه القرآن من الله؛ ليبلغ عباد الله؟ وهكذا.
هذه المسألة لها أثرها الكبير جداً في موضوع الدعوة، في موضوع التأثير على الآخر، تجد أن هذه القضية فعلاً هي متفرعة على الإيمان بأن الإنسان بشكل عام، الناس بشكل عام عارفين لله، عارفين لله؛ لأنه تأتي حركة الرسالة، تلحظ هذه النقطة: أن الله معروف عند الآخرين، أي: أن بإمكانك أن تتحرك باسم الله، وفي طريقه، ويكون الموضوع مقبولاً، أما أن تتحرك أنت كإنسان أنت، وصاحب فكرة تصطدم بآخر لديه فكرة، تتحرك مثلاً أنت من طائفة، والآخر من طائفة، ويراك تبرز أمامه من الطائفة الفلانية التي لديه صورة عنها سيئة، هذا هو هناك يشتد، لا يرضى أبداً يقبل أن ينجذب لك؛ لأن معنا هذا بأنه سيتحول إلى شيعي مثلاً، وذاك من هناك لن يرضى؛ [لأنه يريد يحوله إلى سني، أو ذاك يريد يحوله إلى كذا، وذاك يريد يحوله إلى كذا] أن تبقى القضية في إطار البشر معناها يحصل فشل، أن يقدم الموضوع عن الله وبطريقة مترسخة، وطريقة متكررة، هنا يبدو الموضوع بأن من يقدمه إنما هو واحد من البشر، ويريد أن نكون جميعاً في هذا الطريق إلى الله، والله هو معروف عند البشر، أليس الله معروفاً عند البشر، وفوق الكل؟. لا يمكننا بالطريقة هذه لولا أن الله قد غرز معرفته في نفوس البشر جميعاً، لأنها ستشكل عائقاً كبيراً جداً حالة الفراغ هذه، لو هناك حالة فراغ ستشكل عائقاً كبيراً جداً في موضوع دعوة الآخرين إلى الله.
هذه أيضاً تعتبر من [المسائل التي لها أثرها الكبير في موضوع الدعوة، فعندما يأتي ويتحرك من يكون داعياً إلى الله باسمه هو في الموضوع] وقدم نفسه، سيكون الآخر يعتبره واحداً أمام واحد، شخص أمام شخص، طائفة أمام طائفة، سيجلسوا يتواجهوا. وهذا الذي حصل على مدى مئات السنين، هل المعتزلة حولوا الأشاعرة إلى معتزلة، أو الأشاعرة حولوا المعتزلة إلى أشاعرة؟ جالسين متواجهين على طول، شيعة وسنة، معتزلة وأشاعرة، عدلية وجبرية، على طول؛ لأنه هبطت المسألة عن هذا الأسلوب فعلاً عن منهجية القرآن.
هذا يقدم: المعتزلة هم كذا كذا، والآخر عنده: الأشاعرة هم كذا كذا، إلى آخره، ذاك أشعري محاول أن لا ينجذب له ولا [صانتي واحد] عارف، هو مشوه عنده هو وطريقته، والثاني مثله، ويشتدوا وجالسين متجادلين على طول، وكل واحد منتظر الثاني يكمل كلامه يجوب عليه، وهكذا، تمر مئات السنين، وكل واحد لوحده، وكل طائفة لوحدها! أليس هذا الذي حصل؟.
تجد أسلوب القرآن كيف أنه جمع العرب تحت راية واحدة، وتركوا آلهة، وتركوا تقاليد كثيرة، وتركوا الأصنام التي كانوا يعتبرونها آلهة، تركوها واتجهوا تحت هذه الطريقة. وهذه القضية نحن نراها من القضايا الواسعة في القرآن متكررة: أن لا تبرز أنت باسمك، لا يبرز أحد باسمه، أن يكون داعياً إلى الله، يعرف كيف هي الدعوة إلى الله، وإلا سيحول بين الآخرين وبين أن يتقبلوا.
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام: من الآية19)، لاحظ أليس الله سبحانه وتعالى هنا يعلم نبيه كيف يقول؟ يعلمه كيف يكون أسلوبه؟ بل يقدم له العبارة كيف يقول، وهو يعلم بالآخرين، ويعلم بالناس. لاحظ أليس هذا يبدو وكأنه أسلوب طبيعي، أو أسلوب غير منطقي يبدو؟ على حسب رؤية المتكلمين هذا أسلوب غير منطقي، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، سيقولون هذا ليس استدلالاً يقنع ويلزم! قل هكذا.
وتلحظ في هذا أيضاً أنها قضية هامة في من يقول، مثلما قلنا سابقاً، وأن لا تلحظ الطرف الآخر؛ لأنه أحيانا [يحنِبوا] الإسلام في واحد هناك ما رضي يقتنع، الذي يقول: ساحر، والذي يقول: كذاب، والذي يقول: شاعر، أو الذي يسمونه زنديقاً، أو ملحداً، أو نوعية من هذه، هؤلاء يكونون قليلين في البشر، هؤلاء يتلاشون، بإمكانك أن تأتي لهم بطريقة ثانية تبهتهم، أو تجعلهم لا شيء، وتسد الطريق أمامهم؛ لأن الأغلبية من البشر يفهمون ويتأثرون. {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، قل أنت، وأنت من أنت، أليس معروفاً بأنه إنسان له ثقله عندهم؟ شخصية لا يمكن عند الناس الطبيعيين، والعاديين أن يروا بأنه إنسان أحمق، أو إنسان مليء بالتطانين، وتفاكير، وكل مرة ومعه [طنجعة]، إنسان عندما يقدم قضية هامة، يعني: هي هامة فعلاً.
هم يلاحظون في الدعاة، قضية هذه معروفة لكن بمستوى متدني جداً، أليسوا يلاحظون في الدعاة أن يكون بشكل شخصية كبيرة؟ يحاولون يسمنونهم أحياناً، يحاولون يعملون لهم أشياء حتى يسمن ولحيته تسمن، [ويعفشوه] حتى يملأ المحراب، حتى يقولوا [هذا الشخص – عندما يتحدث – لن يتحدث هكذا إلا وهو ملان علم وقضايا هذه صدق]، يحاولون يعملون هذه.
وتقدم الأشياء مبتوتة عنده، هذه قضية هامة، وفعلاً ملموس يعني: الأثر السيئ لها، أو الإيجابي إذا ابتعد الإنسان عنها، عن حالة تمرِّض ما أنت عليه تمرِّضه، ومتى ما حصل هناك قليل ضجة تكون قد أنت مريض أنت، قد القضية عندك [احسب أنها ليست محكمة، أحسب أنها لن تسبر أحسب أنها ليست جذابة بالشكل المطلوب] لا، هنا يقدم القضية واثق هو، قضية مبتوتة، قضية عنده واثق فيها مائه بالمائة {قُلْ لا أَشْهَدُ} {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، ليس الموضوع موضوع استدلالات على ما يقدمه الآخرون مع الآخرين، قضية تعامل مع الإنسان كيف يتعامل معهم؟ كيف يجعلهم قريبين من أن يتأثروا؟ كيف يؤثر في أعماق نفوسهم، الإنسان الذي يقدم قضية هو فيها بطريقة هكذا متردد، ومريضة، أنت تجعلها هزيلة غير مقبولة، قدمها بجدية، بثقة، ويظهر للآخرين مهما كانوا يعرفون بأنها قضية عندك ثابتة، لا تتزحزح عنها، ولا تقدمها باسمك شخصياً، قل: هكذا أمرنا الله، هكذا يريد الله منا، هكذا دعانا الله في قوله كذا كذا.
هذا الأسلوب لا يلحظ على الإطلاق في كتب علم الكلام نهائياً، هنا لو يقول له: إذا قال أحد أنهم آلهة، قل له: إنما هو إله واحد، سيقول: كيف هذا! لا ينفع هذا الأسلوب، حاول تبرهن بطريقة منطقية، واستدلالية على أن كذا.. كلام كثير؛ لهذا وجدنا كيف كانت الطريقة هذه ناجحة، ألم تكن ناجحة؟ في خلال فترة قصيرة تحولت الجزيرة هذه إلى بلد مسلم، خلال فترة قصيرة، والآخرون عشرات المتكلمين مَنهم الذين قد أدخلوهم في الإسلام مَن؟ لم تمر فترة إلا وقد أخرجهم الآخرون من الإسلام، من داخل المسلمين، من كفَّرهم من عندنا، ومن كفَّرهم من عند آخرين، وكفَّروا بعضهم بعضاً.
الإنسان إذا قدم قضية – هو فيها – بطريقة تمريضية يعطي الآخر طمع، أنت ترفع معنويته في صراعه معك، تعطيه طمع أنه يحاول كيف يؤثر فيك، ينهيك تماماً، يبعدك عن الموضوع، لكن يلمس أنك واثق من نفسك، ومن القضية التي أنت فيها، ومصر عليها، وقضية هامة عندك، في الأخير تنهار معنويته هو، يهزم نفسياً.
إذاً من خلال آيات كهذه نعرف الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)؛ أنه بالتأكيد سار على هذا التوجيه؛ ولهذا نجح بشكل كبير، ألم ينجح نجاحاً مطلقاً؟ سار على التوجيهات هذه في منطلقاته العملية، وفي تقديم الأشياء، وفي خطاب الآخرين.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:20)، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} ذكر أنهم يعرفون الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون القرآن أيضاً أنه منزل من ربك بالحق، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} نحن نقول: أن كلمة الذين آتيناهم الكتاب، أوتوا الكتاب، أهل الكتاب، لا تحملها على أنها تعبر عن فئة واحدة، على كيفية واحدة، وحالة واحدة، ونفسية واحدة، فئات، مثلما نقول: أهل الكتاب فئات، نفسياتهم، وواقعهم، المؤمنون كذلك، المنافقون كذلك، المشركون، النصارى فئات في واقعهم.
الذين عندهم معرفة بالكتاب، فئة منهم، قد ترى الكثير من عوامهم الذين قال عنهم في آية أخرى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}(البقرة: من الآية78)، هؤلاء الذين عندهم معرفة بالكتاب يعرفون رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أنه رسول من الله كما يعرفون أبناءهم.
يأتي بهذا الأسلوب في أكثر من مقام تعريض بالطرف الآخر تجعله هو يشك في نفسه، أن سبب أنه لم يؤمن، أنه معارض، هو أنه جاهل، لا أما من لديهم معرفة بالكتاب فهم يعرفون هذا كما يعرفون أبناءهم؛ لأنه أحيانا قد يكون الطرف الذي يعارضك ينطلق، ويعتقد أنه هو الذي عنده رؤية علمية، وعنده حكمة، وعنده فكرة صحيحة، عندما يقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} لكن أنتم جهلة ممكن أن تكونوا على هذا النحو، هذا يعتبر ماذا؟ هجوم نفسي، حرب نفسية بالنسبة لهم أن يعرفوا بأنهم على هذا النحو؛ لأنهم جهلة، أصلهم جاهلين، فعليهم أن يعترفوا بأنهم جاهلين؛ ليرفعهم إلى المعرفة، والعلم، والنور، والهدى.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(الأنعام:21)، لأنه يأتي بمقابل الهدى والإنسان معارض سواء من جهة الأميين، أو من جهة أهل الكتاب، هنا يعارض بأشياء قد تكون افتراء على الله، أو أحد من أهل الكتاب يكون هناك عندهم دلائل واضحة جداً على رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) تبين لهم بأنه رسول فعلاً، لكن يفترون أشياء أخرى.
يكون في هذا تهديد لأهل الكتاب أنفسهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وسيكون لها وقع في النفس؛ ليخاف، هنا تجد كيف يخوف أهل الكتاب وهم يكفرون بهذا، ألم يحصل هذا في كثير من الآيات؟ ويخوف المشركين بما حصل للأمم الماضية، وبجهنم، وباليوم الآخر، وبسوء الحساب، وأشياء من هذه، وهم ما زالوا مشركين، يعني بالتأكيد أنه عارف للإنسان، أنه يعلم بالإنسان، فهذا الأسلوب الذي يجب أن يسلكه الناس، هذه الطريقة التي هي طريقة ناجحة: أن تتعامل مع الإنسان، وتخاطب الإنسان بالأسلوب الذي قدمه من خلق الإنسان، ووجه إليه الشخص الذي نجح وهو يسلك هذه الطريقة، رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(الأنعام:22) هذا تهديد، يقدم القضية محسومة وواقعة لا شك فيها، يذكر هناك القصة كيف سيحصل، ويوم.. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(الأنعام:23)، يقول لهم بأنهم في القيامة سيكفرون بما كانوا عليه في الدنيا، ويحاولون أن ينزهوا أنفسهم مهما أمكن إذا كان سينفق يمين أو أي شيء {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، هذا يهز في نفسيتهم ماذا؟ تمسكهم بالحالة التي هم عليها، أن هذه حالة سيأتي يوم من الأيام تتنكر لها، وتتبرأ منها. {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(الأنعام:24).
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}(الأنعام: من الآية25)، أليس هنا تشخيص في السورة، من عند الآية التي قال عنهم: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الأنعام:7)؟ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(الأنعام: 25- 27)، أليس هو يذكر فئة واحدة؟ فئة واحدة كيف هي في واقعها؛ لأن هناك من قد طبع الله على قلوبهم، قد هم فئة مطبوع على قلوبهم تماماً، هم هذه الفئة التي تراها عندما تأتي إليك إنما تجادل، ما كأنها عرفت شيئاً نهائياً، ولا سمعت شيئاً، ولا قد فقهت شيئاً، يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
وهذا في نفس السياق الأول يعني: أن لا يحصل عند الإنسان أيّ اهتزاز بما هو عليه عندما يرى ناس بعدما كلمهم، بعدما وضح، بعد أشياء هو يراها أشياء عظيمة، وهامة، وآيات واضحة، ثم يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، إما جدال أنه {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، أو أن تكون له جنة، أو أشياء من هذه يجادلونه حتى يحصل عنده [يمكن ربما هذا ما فيه كفاية، يمكن البينات هذه ليست واضحة] لا، هناك نوعية هم هكذا: طبع الله على قلوبهم.
هنا تلاحظ في هذا إجابة على من يقولون في موضوع: الختم والطبع، والأشياء هذه، أننا نجد الفئات هذه ليس معناه بأنها أصبحت في مكان لم يعد يمكنها تسمع هذه البينات، وهذا الهدى، عندما يقولون: لا يجوز على الله يصرفهم عن هداه، لم يصرفهم هم هؤلاء يسمعون أليسوا يسمعونه؟ لكن هم نوعية لم يصل بهم الحال إلى أن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً إلا بعد آيات كثيرة جداً واضحة وبينة وفوق الكفاية، ودائماً يكونون محاولين كيف يتنكرون لها، ويحاولون كيف يتمحلون الأشياء، دعايات مضادة، يكذِّبون بها يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وأشياء من هذه، هم في نفس الوقت موجودين، أليس أولئك موجودين؟ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} هل معناه أنه لم يعد يستطيع أن يذهب إلى مكان يسمع فيه هدى، يسمعه ويفهمه كعربي يفهمه؟ لكن لم يعودوا بالشكل الذي يهتدون فعلاً، يتفاعلون مع الموضوع، ويهتدون به، هل كانوا من قبل على هذا النحو: يتفاعلون معه بإيجابية، ويهتدون، ثم الباري سد الطريق أمامهم؟ لا، تركهم في طغيانهم يعمهون، فأصبحوا إلى الدرجة هذه: يسمع آيات الله، ويفهمها كخطاب عربي، ليس معناه أنه لم يعد يعرف ماذا معنى هذه؟ لكن قد صار قلبه لم يعد يتأثر، ولا يهتدي.
لا نعلم، ولا يمكن لأحد أن يعلم كيف تكون المسألة بالنسبة لقلب الإنسان حتى يصير يستمع إليك ومثل لا شيء، وهو يفهم الأشياء لكن لا شيء بالنسبة له، لكنها قضية خطيرة بالنسبة للناس، قدم الموضوع في القرآن أن يفهم الإنسان بأنه بحاجة إلى الله، وأن يعرف بأن الله هو غني عنه، وأنه لن يعجز الله، سيريه أمام نفسه أنه خاسر، يريه أمام نفسه أنه خاسر، لا نقول: أن الباري عجز، عجز في أولئك، وهم ما زالوا طبيعيين، قدم لهم ما يفقهونه، ويفهمونه إلى درجة أنهم يعرفون أنه حق، لكن يعاندون فيجعلهم على هذا النحو: لا يتوفقون، ولا يهتدون نهائياً.
إن الإنسان بحاجة إلى أن يكون مرتبطاً بالله، وخائفاً من الله، يتوجه إلى الله لأن يهديه، يتفاعل مع ما قدم إليه، ويستعين به مثلما جاء في أول [سورة الفاتحة]: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5)، ويخاف في نفس الوقت أن لا يحصل من جانبه أدنى تقصير، أو شيء ربما يضرب على سمعه، أو بصره، أو يختم على قلبه، لاحظ كيف كان أسلوب الراسخين في العلم، ألم يقولوا هناك بعد ما رأوا أناساً ممن يتبعون المتشابه، وأشياء من هذه، عرفوا أن في قلوبهم زيغاً، رجعوا إلى الله {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا}(آل عمران: من الآية8)، خائفين فعلاً أن لا نقع في حالة كهذه، ليس معنا إلا أنت {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}(آل عمران:8).
وأيضاً فيها أن يفهم الإنسان نفسه هو، من يتحرك في مجال الدعوة للناس أنك تبين، تبين، إذا عندك فكرة بأنه هؤلاء الناس ربما بعد سنتين، بعد ثلاث، وأنت معهم، معهم على طول يمكن يهتدون فيما بعد، قد [تحنب] نفسك في قرية، وأنت تقول: عسى عسى عسى، إلى آخره. لا. هذه هي مسيرة، تعامل مع الناس، وتوجه إلى الناس جميعاً؛ لأنك قد تكون في الواقع تحاول تتحرك مع قرية، أو مع منطقة معينة، الكثير فيها قد صاروا من هذا النوع، لا يعد يستفيد نهائياً فتضيع أنت، تضيع مسيرتك، وتضيع حركتك، ليضيعوا هم، اشتغل، الله وعد بأن يستبدل بهم غيرهم، من طبع الله على قلبه، أو ختم عليه، أو كذا، هذا يمكن أنه قد انتهى مفعوله، اشتغل مع غيره.
هذه رؤية هامة بالنسبة للإنسان الذي يعمل في سبيل الله، وأنك تبين، تبين تبين، وفي نفس الوقت لا [تحنب] نفسك مع فئة معينة، بعض الناس قد [يحنب] مع عمه، أو خاله، أو أخوه، أو أي واحد، أو مع أشخاص معينين في قرية، اشتغل في هذه القرية، وفي القرية الثانية، والثالثة، ومع من لقيت؛ لأنك عندما لا تكون عندك الرؤية هذه: أنه فعلاً قد يكون هناك من الناس بعد التبيين، وبعد الإيضاح، وبعد كذا، من يمكن أن يكون قد طبع على قلبه، إذا لم يكن لديك الرؤية هذه ستجلس تضيِّع عمرك معه، ولن يتأثر بك نهائياً، منتهي، وتكون قد خسرت أنت حركتك، ونشاطك، وعمرك مع أناس لم يعودوا يعملون شيئاً، ولم يعودوا يستفيدون شيئاً.
وفعلاً أنها قد تصل الحالة، وهذه قد تكون ملموسة عند كثير: أنه في الأخير يحبط واحد هو، لم يرض – مثلاً – أخوه، أو عمه، أو خاله، أو واحد من القرية، أو مجموعة، لم يرضوا يسمعوا، في الأخير يجلس، ويحبط ويقول: [ياخه ما رضيوا]؛ لأنه أمامه دائرة واحدة محدودة.
هنا يبين أيضاً كيف هم {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، ينهون عن هذا الهدى، يبعدون الناس عنه حتى لا يقرب منه أحد، ولا أحد يستمع له، ولا أحد يتأثر به، ويبتعدون عنه، ينهون عنه ويبتعدون في نفس الوقت، {ينأون} أي: يبتعدون عنه. {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أن هذه مسيرة لا تتوقف، لاحظ هذه من الأشياء المهمة: أن ترى بأن الطرف الآخر هو الذي سيخسر هو {يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أما القضية هذه فلن يؤثروا عليها، وهذه الطريق لا تتأثر، ودائماً يكون عند الإنسان تلك الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة: من الآية105) سيكون الآخرون هم من يضيعون، وأنتم ستنجحون. يهدد حتى النوعية هذه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يبين كيف أنهم يوم القيامة سيكونون نادمين، وفي النار يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا من جديد.
هذه الآيات تجدها في سياق واحد، تبين لك فئة واحدة، ومع هذا يأتي رواه يروون عن أبي هريرة: أن هذه الآية نزلت في أبي طالب {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، أي: أنه ينهى عن محمد حتى لا يؤذيه أحد، وفي نفس الوقت هو يبتعد عنه!! أبو طالب لم يكن من الفئة هذه، هذه فئة ثانية من عند قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، إلى آخر الآيات، لاحظ كيف هي في سياق واحد، لكن هكذا في أسباب النزول، وهو من الفنون التي فيها لعبة كثيرة، يأتي يأخذ لك من داخل الآيات وهي في سياق واحد، موضوع واحد، فئة واحدة، أو شخص واحد، وأخذها وقال: هذه نزلت في فلان، أو هذه نزلت بعدما نزل كذا، وهي آية واحدة، الآيات سياقها {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} هل كان أبو طالب يجادل محمداً (صلوات الله عليه وعلى آله)؟ هل كان يقول: إن ما يأتي به أساطير الأولين؟! لا.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، أليست هذه فئة واحدة يتحدث عنها؟ كانوا حريصين جداً على تشويه الإمام علي، وجدوا في شخصه أنهم ما استطاعوا على الإطلاق، فحاولوا إذا أمكن أن يجعلوا أباه كافراً، حاولوا يعملوا روايات، ويعمموا أنه كان كافراً، يحاولون في أم النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) أو في أبيه، أو في أي جهة! هذه فكرة من عند بني أمية، وبنوا أمية كانوا أعداء لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أعداء لرسول الله، وللإمام علي، ولأهل البيت، لبني هاشم بشكل خاص، من الجاهلية كانوا أعداء، كانوا معادين لبني هاشم من الجاهلية قبل النبوة.
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الأنعام:28)، بعد أن قال عنهم أنهم سيقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}، اللهم اعلم هل معناها – لأنهم هنا قالوا: يودون أن يكونوا مؤمنين – أنهم في الواقع، في الدنيا وهم يسمعونه، وهذا هو الشيء الطبيعي: أن الحق ينفذ إلى أعماق النفوس رغماً عنك، تؤمن به رغماً عنك، في داخل نفسك.
ثم في الأخير هناك صرحوا بما كانوا يخفونه هنا، هذه ممكن تأتي في قضية الإيمان، أو أن نقول: أنه بدا لهم الأشياء التي كانوا يهددون بها، بدا لهم هذا الوعيد الشديد، بدا لهم النار، لكن أن نقول ما كانوا يخفون من قبل، هل معناه: ما كانوا يخفون من أنهم مؤمنون بأنها قضية حقيقية، أو أنه شيء حسرة عظيمة عليهم؟ خلاصته أنهم وصلوا إلى حالة تبين أنهم في حالة رهيبة جداً من الحسرة والندم، يتمنون أنه يمكن أن يعودوا إلى الدنيا، فيؤمنون من جديد.
{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، هذه من الأشياء العجيبة، ومن الخسارة الكبيرة: أن الإنسان يصل إلى هذه الحالة، أن الإنسان، أو فئات من الناس قد يصلون إلى الحالة هذه: تخبث نفوسهم بشكل عجيب إلى درجة أن جهنم نفسها لا تعد تنفع فيهم، فلو خرج من جهنم بعد ألف سنة لعاد لما نهي عنه! أليس هذا يبين عندما يقول الله بأنه سيجمع الخبيث في جهنم، يركمه جميعاً فيجعله في جهنم وخالدين فيها، خالدين، نوعية لا يصلح إلا أن يكون هناك {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.
إذاً فيفهم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) معنى الآية، لتفهم أن هناك فئات، أو أشخاص لا ينفع فيه لو دخل جهنم وخرج أنه سيكون على تلك الطبيعة، هناك من يسيرون في نفس الطريق لدعوة الناس، وإرشاد الناس، وفي حركة عملية، وأكثر ما تواجه فئات من هذه في المجال العملي، لا تدري في أي منطقة، سواء شخص، أو قرية، أو كيفما كانوا، نوعية فيهم مؤشرات بأنهم من النوع الذي ماذا؟ لا يعد يقبل، لكن لا تتصور أن هذه قد تأتي من أول يوم، عندما تبين مرحلة، وتوضح، وتفهم، وتعمل بكل الأساليب الجيدة، ثم ترى أنه لم يعد يفيدهم شيء نهائياً، قد تكون هذه النفوس قد وصلت إلى الحالة هذه الرهيبة التي لو دخلت جهنم وخرجت لعادت لما كانت عليه سابقاً؛ لتعرف بأنك إذاً اذهب من عند هؤلاء، اعمل مع غيرهم، ولا يكون عندك مانع أن يسمعوا ما يأتي من عندك، أو توصل إليهم أشياء من عندك، لكن لا [تحنب] نفسك بهم.
{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(الأنعام:29)، هي حياة وبعدها يموت الإنسان ولن يكون هناك بعث! هذا قولهم هم. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}(الأنعام: من الآية30)، أنتم بعثتم إذاً وأنتم في مقام حساب، وتلك هي جهنم، ويقال لكم أنتم: ادخلوا جهنم {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}(الأنعام: من الآية30)، هنا يذكر الإنسان بأنه هنا يقول: بلى وربنا في الدنيا قبل أن يقول في وقت لا يعد ينفع، أن يقدم لك الحق تؤمن بالحق، وتتبع الحق، وتسير عليه، ما ينفع في القيامة تقول: {بَلَى وَرَبِّنَا}.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}(الأنعام: من الآية31)، لاحظ كيف يقدم: أن الحالة هذه هي من حالات الخسارة عند الإنسان أمام القضية هذه، مجملها هنا في الحياة يرفض، ثم يوم القيامة سيقول: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} حينما وجد حقاً، هناك جهنم، والوعيد، والأشياء كلها واضحة أمامه، أن هذه حالة خسارة، يعني أنك عندما تكون على هذا النحو: لا تؤمن بالحق حتى تصبح معايش للعقوبة، عقوبة تفريطك، عقوبة ابتعادك وتقصيرك، أن هذه تعتبر خسارة عندك، تعتبر خسارة عليك هذه الحالة، في حياة الناس هنا، في حركتهم هنا في الحياة هذه، وفعلاً هذه قضية عمل القرآن بشكل كبير على أن يبتعد بالناس عنها، ويرتقوا عنها، لا يكونوا فقط من النوعية التي لا تعرف أن الشيء حقيقي إلا عندما يأتي مصداقه الذي قد صار ماذا؟ عقوبة مثلاً، لم يعد ينفع أن يعرفوا أنه صحيح، يقول لك: [لا يوجد أمريكا إنما فقط تكبِّرون المسألة!] إلى أن تكون أمريكا موجودة، بعد ذلك يقول: [والله صحيح!] ماذا يمكن أن يعمل؟ لا شيء، رأينا أناسا كانوا يقولون: الوهابيين ما هم صدق من عام [80 ميلادي] يقولون: ما هناك وهابيون، إنما أنتم فقط تكبرون القضية، ولا ولا.. إلى آخره، رأوا الوهابيين من بعد، قالوا: صحيح، وما عملوا شيئاً!.
لكن عندما تكون مؤمناً بالقضية من قبل، وتعرف من قبل، وتتحرك على هدي الله من قبل، لن تصل أشياء سيئة، لن تصل العقوبات السيئة، لن تصل إلى حالة حسرة وندامة وخسارة، تقول: [والله صحيح، وأننا كنا فعلا مقصرين ولم نكن نصدق وكنا نقول إنما كذا وإذا المسألة صدق]، ماذا سينفع هذا؟ هل سينفع عندما يقول هكذا؟ لن ينفع.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، لم نعمل الأعمال التي كانت ستجعلنا ناجين: أن يؤمنوا بالله وبرسوله وباليوم الآخر، ويهتدوا بهدي الله. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}(الأنعام: من الآية31)، نعوذ بالله.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنعام:32)، يذكِّر الإنسان أن يكون اهتمامه كبيراً بالدار الآخرة، وقد يكون في هذا السياق، أن يقول لك: الحياة هذه التي أمامك ما هي في الأخير؟ هذه الحياة؟ ليس المعنى أن الحياة في أصلها، وفطرتها، وطبيعتها هي هكذا. ألم يقل في آية أخرى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}(الدخان: من الآية39)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}(الدخان: من الآية39)، والحق بعيد عن اللهو واللعب، لكن يقول: افترض هذه الحياة التي أنت فيها، وتتشبث بها، وتؤثرها على مقامات هامة جداً أليست لعباً ولهواً؟ ماذا فيها، وهي الحياة التي أمام الإنسان؟ أليست التي أمامه؟ من الذي أعطاها الصورة هذه؟ الإنسان نفسه أعطاها هذه الصورة التي أصبحت وكأنها لهو ولعب، وليست شيئاً جعلها فساداً، وجعلها لا شيء.
إذاً يستفاد منها مثلما نقول الآن، نقول: لماذا نحن نخاف، ونحن في حالة لا نمتلك من الدنيا إلا لا شيء، يعني: واقعنا قد نقول فعلاً مثل واقع العراقيين بعد الحرب، واقعنا الآن مثل العراقيين بعد الحرب، يصيحون ليس لديهم كهرباء، ولا معهم ماء، ولا معهم أدوية، نحن هكذا من سنين لا كهرباء، ولا ماء، ولا خدمات، وهناك عندهم طامة أن ليس لديهم كهرباء وماء، إذاً ألسنا في حالة هي حالة سيئة؟ واجهة الحياة هذه هي على هذا النحو، نقول لأنفسنا: هذه الحياة التي نحن عليها ليست بالشكل الذي ننشد إليها، فلماذا نخاف عليها، ولماذا نبتعد عن الآخرة، نحن أحوج فئة للآخرة؛ لأن حياتنا هذه ليست شيئاً، خسارة، ولهو، ولعب، وضياع، وكذب، وانعدام مشاريع، أليست هذه حاصلة؟.
هذا أسلوب من الأساليب، ليس المعنى: أن الله جعل الدنيا هذه، جعل الحياة هذه لهواً ولعباً، ليست لهواً ولعباً، يقول: الإنسان ما خلق سدى، ما خلق عبثاً، الأرض هذه خلقت، والسماوات خلقت كلها بالحق، وعلى أساس الحق، تكون المسيرة مسيرة حق، وهل يقدم الحق بأنه لهو ولعب؟! مسيرته في الحياة ليست لهواً ولا لعباً، لكن حياتكم هذه لهو ولعب ليست ذات قيمة، حاولوا أن تنشدوا إلى الآخرة، حياتكم أنتم التي جعلتموها على هذا النحو.
{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، نلاحظ أليس هذا الأسلوب ينفع فينا نحن؟ من الذي أوصل الناس إلى حالة من هذه، الله أم الآخرين؟ الذين لا يقدمون خدمات، فعلاً أوصلوا الناس إلى هذه الحالة من الفقر، والغلاء، لا خدمات، ولا مشاريع مياه، وكهرباء، ولا صحة، ولا شيء، أليست هذه حياتنا الدنيا هكذا؟ هل هي من صنع الله؟ أو من صنع الآخرين؟ عملوها، أوصلوها إلى هذه الحالة، نحن وإياهم حقيقة، نحن وإياهم عملنا بهذا الشكل.
إذاً حياتكم هذه هل هي بالشكل الذي يجعلك تخاف أن تواجه أعداء الله، أن تجاهد في سبيله فيكون لك فضل عظيم عند الله، وتحظى بالجنة التي هي خير للذين يتقون، أفلا تعقلون؟ عند المقارنة، أليست قضية تؤثر هذه لدينا؟ أما لو أن الحياة مستقيمة ليست حياة لهو ولعب فهي متجهة إلى الجنة بأهلها، الحياة التي ليست حياة لهو ولعب حياة من؟ حياة يسود فيها هدي الله، حياة يكون الذي يحكم فيها دين الله، والنفوس وتعامل الناس وكل حركتهم على أساسه تعني هذه ماذا؟ حياة بعدها جنة، لكن حياة لهو ولعب، ما دام لهو ولعب فأفضل لك الجنة، أي: لا تؤثر حياة هي لهو ولعب، حياة فقر، بعض الناس يكون خائفاً وبيته، وأمواله لا تساوي شيئاً، لو يضربها الأمريكيون لكنت الرابح أنت، أنت مقدر أنهم سيضربونها بصاروخ قيمته تساوي أضعاف قيمة بيتك، يساوي أضعاف قيمة بيتك، يعني ماذا؟ خسروا الزائد على قيمة بيتك.
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ}(الأنعام: من الآية33) لاحظ كيف دائماً هناك رعاية لنفسيته، أليس هناك تركيز على هذه القضية؟ تركيز عليها بشكل كبير؟ نفهم فعلاً بأن الناس بحاجة إلى هدى الله، وفي المقدمة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فالإنسان يعطي كلما وجه إليه أهمية، ويتحرك على أساسه. {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} هو يحزنه فعلاً أن يرى الناس ينصرفون عن هدى الله، وهو حريص على الناس، ومحب لئن يهتدي الناس، ويعرف أنها خسارة عظيمة عليهم أن يبتعدوا عن هذا، يحزنه، لكن لا ترجع على نفسك، الذي يحصل فيها الكثير من الناس، الذين يسمونهم دعاة، وعاملين، يرجع على نفسه يقول: [أمانة ما هو صاح شيء] لا، إفهم بأنه على هذا النحو: الذي – فعلاً – أنت يحزنك أن يكونوا عليه، لكن ما قد قلته، وما عملته قد وصل إلى أعماق نفوسهم.
{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} في واقعهم هم لا يعتبرونك كذاباً، ولا يعتبرون أنما قدمته كذباً {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام: من الآية33)، جحود هكذا، وهم في الواقع مؤمنين أعني: في الواقع من داخل قد عرفوا أن هذا صحيح، وأن هذا صدق، وأنك إنسان لست ممن يمكن أن يكذب، وهذا مما يبين لنا بأنه فعلاً حركة الناس بهذه الأساليب أنها أساليب تجعل الآخرين يؤمنون في أعماق أنفسهم رغماً عنهم؛ لأنه أسلوب دقيق، وأسلوب راقي، وأسلوب على درجة عالية من التأثير إلى درجة أنه الذي قد صار مؤمناً هو مؤمن والآخرون حتى هم أنهم من داخل وصل كلامك وتأثيره إلى نفوسهم؛ فأصبحوا يؤمنون بأنه صدق، لكن جحود لاعتبارات أخرى، [خذيلة].
أيضاً أن تعرف أن هذه قد تحصل عند نوعية من الناس، وإذا أنت تعمل على أساس هذا الأسلوب فأنت فعلاً ترى بأن الناس كلهم في الواقع، كل نفوسهم مصدقة، من قد هو مؤمن مؤمن، والآخر قد دخل إلى داخل نفسه، ثم تعرف بأنه ممكن هؤلاء عندما تراهم ماذا؟ يكذِّبون ويجحدون، لا يكن عندك ربما ما قد فهموا، ربما ما قد عرفوا، ربما ربما، لا، فقط هو منهم جحود.
إذاً هذه القضية نفسها تعتبر بالنسبة لنا قاعدة هامة نقيِّم بها الناس الذين اختلفوا بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) الذين اختلفوا بعده وخالفوه، في الأخير يقولون: يمكن أنهم ما دروا، يمكن ربما ما علموا، يمكن ما فهموا.. أشياء من هذه! كيف تقول: يمكن يمكن وهم يقولون: إن فلان ملهم، أليسوا يقولون: إن عمر ملهم، وهنا يقول لك: إن الآخرين المشركين نفوسهم يوصلهم محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) إلى درجة أنهم يصدقون في أعماق أنفسهم، وهم مشركون ما بالك وأنت تتأول هذا التأويلات لشخص وهم يقولون عنه بأنه ملهم وهو كان المحرك في القضية هو! أليسوا يقولون عن عمر بأنه ملهم، ثم يأتي ناس يقولون: نتأول، يمكن ما فهموا، يمكن ما دروا، ربما كذا، ولا يجوز نعتقد أنهم يمكن خالفوا هكذا صراحة..! وأشياء من هذه، لا، لا يمكن أن تتصور بأنهم أشخاص ما علموا، ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) بمنطقه الذي يقوم على هذا الأسلوب كان يجعل المشركين يعلمون، مشرك كافر.
هذا يشهد بأن آيات الله سبحانه وتعالى تكون على أعلى مستوى، على أعلى مستوى من الوضوح والتبيين، وأنه في نفس الوقت يكون هناك فئات من الناس على أخبث حالة، يؤمن من داخل ولا يرضى إلا يعاند ويجحد، وهذه القضية أساسية وهامة: أن يكون الإنسان فاهماً بأن دين الله، أن آيات الله تقدم على هذه الدرجة العالية؛ ولهذا يسميها صراطاً مستقيماً، تأتي بينات، بينات واضحة، إذا هناك من يشتغل عليها ويشغلها، واضحة، ثم يَبِيْن لك صراط مستقيم، إذا ما هناك حركة عليها في الأخير يبين لك أن ما هناك إلا [تخبط في الظلام]، لأن هذه من الناحية العقائدية ضرورية بالنسبة للإنسان حتى يكون صادقاً في تنزيهه لله سبحانه وتعالى، في أنه حكيم ورحيم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يعلم السر في السماوات والأرض، ويعلم الغيب والشهادة، أنه ليس هناك تقصير من عنده على الإطلاق، لا يأتي تقصير من عنده أبداً.
لاحظ آياته كيف تعمل في النفوس، حتى الجاحد المكذب هو في واقعه مصدق بها، وكان يأتي أمثلة تشهد بهذا، قالوا: أن واحد من أولاد أبي لهب تقريباً وهم مسافرون بعد ما دعا عليه رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، وعندما سمع الأسد وهم مسافرون ارتبك وقال بالتأكيد هو، عرف، هو يعرف أنه صدق، وفعلاً أكله الأسد.
وهذه تعتبر أساسية في موضوع المعرفة يعني: أن يكون عندك ثقة بأن دين الله هو صراط مستقيم وواضح، طريق واضح، هنا سينسف أمامك أن الإنسان موكول إلى ظنه، قدمت القضية في الأخير هكذا: أن الإنسان موكول إلى ظنه، إذاً كل واحد يدبر حاله! ألم تقدم هكذا؟! على أساس أن ما هناك شيء، أن الله لم يقدم شيئاً، وفعلاً هم يقدمونها بطريقة استدلالية، يقدمونه كدليل على وجوب اعتماد هذه الطريقة، أنه لا يوجد معنا أدلة يقينية، أليسوا يقولون هكذا؟ فما بقي إلا أدلة ظنية، وأمارات، وظنون، وكل واحد على ظنه، لا أحد ملزم بأن يتبع ظن الآخر، ينطلق كل واحد على ما غلب في ظنه؛ ليعرف دين الله، يبحث له أين هو! قدموه ظناً! هل يمكن أن يكون بهذا الشكل وهو يوصل المشركين إلى أن يؤمنوا في أعماق نفوسهم، ويعلمون أنه حق.
وأيضاً يذكر أنه ما يزال هناك صفحات أخرى في الكون، صفحات أخرى، وآيات أخرى تتحرك أعني: وضوح، وضوح بشكل عجيب، لكن متى ما قدمت الأشياء بشكل تعمِّي عليك لا تعد ترى شيئاً، لا من داخل آيات الله هنا في القرآن، ولا آياته في ماذا؟ في واقع هذه الحياة. أليس هذا واحد من الأدلة في كتب أصول الفقه، الذين درسوا في شرح الكافل، أو في غيره في التبرير بأن يعتمد الإنسان الطريقة هذه أنه ما هناك أدلة يقينية.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}(الأنعام: من الآية34)، هذا يعتبر عمل لرفع معنويات الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) تثبيت مثلما قال في آية أخرى، تثبيت له، يذكر له كيف كان السابقون، كُذِبوا، وأوذوا، وصبروا حتى أتاهم نصرنا {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}(الأنعام: من الآية34) ماذا يعني؟ كما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}(المجادلة: من الآية21) هذه تعطي الناس أملاً كبيراً، وهو أسلوب القرآن في أنه يعطي الناس أملاً كبيراً؛لأنه عندما تجد أشياء أنت تصبر أمامها، وأذية تحصل، أن تكون مؤمنا بأن هذه القضية ستنتهي في يوم ما، قضية ستنتهي، وتنتهي لصالحك، لصالح المؤمنين الصابرين، ألم يقل: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}؟.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا}، واستمروا في عملهم {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}(الأنعام: من الآية34)، حتى أتاهم أليست تبين أن هناك نهاية مثلما قال هناك: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}(يونس: من الآية109)، وهذه القضية الناس بحاجة إليها؛ لأنه أحيانا قد يقدر واحد بأنه ستكون الحالة هكذا على طول، يصبر، يصبر دايم، دايم دايم بدون أن يعرف إلى متى. لو أنت داخل سجن، وأنت مثلاً ترفع شعار، وأنت في سجن إذهب ارفع شعار واتركه يسجِّن، يسجِّن ستنتهي بماذا؟ بحكم إلهي لصالح الناس الذين يسيرون على كتابه، لا يكون عند واحد لكن إلى متى؟ أو يقول واحد، يقدِّر مثلما هو عادة الناس في كثير من القضايا؛ لأنه غاب عن تثقيفنا هذه القضية، ما يعطي الباري من أمل للناس، وما يعطي من وعود، وأنه مدبر شئون السماوات والأرض، لما يحصل عند واحد، وكأن أمريكا دايم، إسرائيل دايم، دنيا هكذا على طول، على طول، إذاً معناها صبر على طول على طول، وهذه الحالة على طول، ولا تنتهي، لا، تنتهي.
ولا يحصل شيء إلا ويكون له قيمة في نفس الوقت، لاحظ ألم يسجل هنا في القرآن ما قدم بشكل كان يؤذي النبي؟ يقولون: أساطير الأولين، يقولون: ساحر، يقولون: مجنون، يقولون: كذاب، يقولون… ألم تسجل هنا؟ لأنه داخل هذه كانت كلها تبين أن هناك فئة الناس بحاجة إلى أن يعرفوا أن هناك في الناس من النوعيات هذه، وفي نفس الوقت يكذبون أنفسهم، ويَبِيْن من خلال مواقفهم ضعف موقفهم، مرة يقولون: أساطير الأولين، وما سبرت، ثم يقولون مرة: علَّمه فلان، ومرة يقولون: اكتتبها {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(الفرقان: من الآية5)، إلى أن حفظها عن ظهر قلب، ثم قد صار يقرؤها، وكلما قالوا، وكلما مشى الوقت افتضحوا هم، وكذبوا أنفسهم هم، ثم أحيانا يقولون: مجنون! ألم يقولوا مجنون؟ إذاً إذا هو مجنون معنى هذا أنه ليس بالإمكان أن يأتي ليرى أناساً عندهم أساطير أولين يقول: أريد أن تقرؤوها علي على طول حتى أحفظها! هل المجنون سيعمل هكذا؟ المجنون يهيم في الشوارع، لا يرتب شيئاً، ألم يكذبوا أنفسهم في قولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}؟ كذبوا أنفسهم.
يتجلى لك في الأخير من مجموع الأشياء هذه كلها بأنها كلها تحكي عن ضعف موقف كل من يصد عن هذا الدين، وأنه على الرغم من محاولاته تقدم بالشكل الذي تفضحه، وفي الأخير ينتهي، ألم يسجلها هنا؛ لأنها تعطي قيمة، وهكذا لا يحصل للناس وهم في سبيل الله أي شيء من جانب عدوهم يبدو وكأنه أذية، أو يبدو شيء يحتاج إلى صبر، سجن مثلاً، أو أشياء من هذه وتكون في نفس الوقت بالشكل الذي يفيد القضية التي هم فيها، ويفضح العدو نفسه.
لهذا تجد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان في وضعية أشد من وضعيتنا بالنسبة للمجتمع، عارف أن الرسالة هذه للعالمين، وهو يرى معارضات بهذا الشكل الرهيب من عنده، من داخل مكة، والجزيرة ما زالوا مشركين، وهو رسول للعالمين، أليس هكذا؟ لكن لاحظ كيف توجيه الله له، يبين له كيف الأمور، كيف ستنتهي، يحصل عنده إيمان بأنه فعلاً سينتهي هذا، وفعلاً انتهى، لم يمت إلا وقد رأى الجزيرة مسلمين جميعاً، لم يمت إلا وقد رأى العدو الكبير منهزم أمامه في تبوك، وهو الشخص الذي كان في مكة يحصل له أذية من داخل القرية التي هو فيها، من داخل أصحابه، لم يحبط، أيُّ واحد منا سيحبط، يحبط ناس منا أمام شخص، أو شخصين، هذا عارف أن رسالته للعالمين، في نفس الوقت لم يحصل عنده إحباط، وفعلاً كانت النتيجة بالشكل الذي رآها هو، ورآها الناس، كل من آذوه، وصبر في استمراره في عمله على الرغم من أذيتهم، وكل الأعداء في الأخير انتهوا، أليس هذا الذي حصل في تاريخه؟ في فترة قصيرة، عشرين سنة قد تكون، أو ثلاثة وعشرين سنة.
{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}، لكن {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، هناك، في الآية السابقة، أليست هذه، لا يأتي من عند الباري تبديل نهائياً، وسيتجلى لك الشيء، الشيء الذي هو من جانب العدو بالشكل الذي له أثر إيجابي في قضيتك، سيبين، ويبين الشيء الذي قد يكون نتيجة تقصير من عندك أنت، قد يكون هذا الشيء الذي هو أذية لك من جانب العدو وهو في نفس الوقت يأبى الله إلا أن يجعله إيجابياً، قد يكون أيضاً يوجد من ورائه عقوبة لآخرين؛ لأنه لاحظ هنا في موضوع السجن، في قضية الشعار، لو انطلق الناس لما حصل سجون، أليست هكذا؟ على حسب توقعنا لما حصل سجون، لو انطلق الناس في مساجدهم؛ لأنه لم يحصل سجون إلا عندما لاحظوا أن هناك معارضة من الداخل، وبعض أنصاف متعلمين، وأشياء من هذه، لو انطلقوا لما حصل سجون، إذاً السجن في ذمة من؟ المتخلفين؛ لأنه في نفس الوقت هو آية بالنسبة لهم، أن هذا عمل مؤثر، وأنكم لاحظوا بسبب تخلفكم كيف أدى إلى أن يسجن هؤلاء.
يكون في نفس الوقت إيجابية لجانب من يعملون، وخطير على الآخرين؛ لأنه بسببهم سجن هؤلاء حقيقة أن هذا اعتقادنا وفهمنا للقضية أنه بسبب الساكتين سُجن من سجنوا، لم يرفعوه في المساجد، وهي قضية مقبولة، وقضية ملموسة، وقضية يعرفون أن الذي الشعار ضده بأنه عدو واضح العداوة، لكن ما هناك فهم لواقع الحياة هذه، ولا فهم للقرآن، ولا فهم لشيء.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}، يصبر على التكذيب له، وليس أذية فقط. نحن ما قد وصلت المسألة إلى تكذيب لنا، هل هناك تكذيب لنا؟ فقط يقول لك: إن هذا ما منه فايدة! وإلا فهو يقول لك: صحيح، الله أكبر والموت لأمريكا صحيح هي ملعونة، وهم أعداء، وإسرائيل ملعونة، واليهود ملعونين، والنصر للإسلام، كلنا نتمنى أن ينتصر الإسلام، لكنه لن يتحرك! لأنه يقول: ليس منه فائدة، أما الأنبياء فكان يأتي تكذيب لهم، يقولون: ساحر، كذاب، شاعر، مجنون، أساطير، أشياء من هذه وصبروا، وصبروا على أشياء تنالهم هم، أذية بدنية. صبروا على تكذيب الآخرين لهم، وأذية الآخرين لهم {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}، {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}، لأنه وعد هناك {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة: من الآية155). أليس هكذا يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(آل عمران: من الآية186)، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}(آل عمران: من الآية120)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:200)، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}(المجادلة: من الآية21)، {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}.
{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام: من الآية34)، ما يبين لك كيف كانوا، مثلما قال في آيات أخرى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(هود: من الآية120) لأنها قضية مهمة ومفيدة جداً، أن تعرض على الناس المكذبين كيف تكون النتيجة، وكيف تكون عقوباتهم، مثلما حصل لناس آخرين، حاضرين، أو ماضين، وبالنسبة للعاملين في سبيل الله أن تبين لهم كيف كانوا من يعملون في سبيل الله، يصبرون، ويتحركون، ويواصلون، أليس هذا أسلوبه هنا؟ يهدد المكذبين كيف أصبحوا، من كانوا كمثلهم، ويثبِّت العاملين، وعلى رأسهم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}(الأنعام: من الآية35)، يعني: القضية فيها كفاية، كلما قدم إليك فيه الكفاية، هو شخَّص له الناس، ألم يشخص له الناس؟ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}(الأنعام: من الآية25) إلى آخر الآية. ومنهم ناس لو تنزل له كتاب ويلمسه لقال: هذا سحر، يكون يراك وأنت تطلع إلى السماء ويراك وأنت تنزل وهو في يدك، وتعطيه يلمسه لقال هذا سحر مبين! إذاً ما بقي أن يكبر عليك إعراضهم بالشكل الذي يجعل نفسيتك وكأنها تضعف، معنوياتك تهبط، وتتزعزع ثقتك بما أنت عليه، لا، تحرك دون اهتمام بهؤلاء، لا يترك لديك أي أثر، أن يكبر في نفسك، تعظم عندك القضية، ثم عندما تعظم عندك القضية ترجع على نفسك هذا معنى: كبر.
ذكرنا بالنسبة لأنبياء سابقين كيف أنه قال لموسى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(المائدة: من الآية26). كلمة: لا تأس جاءت في إطار حديث كثير عن الأنبياء، فلا تأس، فلا تأس، هنا يقول له في آية أخرى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}(فاطر: من الآية8)، ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، هو إنسان يهتدي بهدى الله، يبين له أن المسألة إذا عندك أن ما قد قدمت لهم كفاية، ومازلت ترى إعراضهم كبير عليك، وأشياء من هذه، اطلع إلى السماء ابحث إذا رأيت لك [سلَّم تركزه] فتأتيهم بآية، إذا عندك أنه ما يزال هناك، أو احتمال لو يأتي كذا ربما لكان يمكن أن يصلحوا، ولا يحصل معارضة.
إن الله هو الأعلم، هو العليم بعباده، هو العليم بالآيات التي تقول: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(النساء: من الآية165)، تجد آياته ليست فقط تأتي آية واحدة، مع أنه تكفي آية واحدة في موضوع معين، لكن يأتي في موضوع معين بآيات متكررة، أشياء كثيرة، في موضوع واحد، يبين بأن هذه لو تحصل عند شخص هي طريقة الجاهلين، حتى يعرف الناس هم، من يتحركون في سبيل الله أن لا يكونوا على هذا النحو، يقولون: [أمانة كاد لو حاولنا كذا ربما أنه يمكن أن يسبروا ولا كان وقع ما وقع]، في موضوع بينات وتبيين، قيِّم نفسك من جهة بأنه هل أنت تمشي على الأسلوب الصحيح، وما هناك ما يشكل ضمانة أن الناس في حركتهم على أسلوب صحيح إلا إذا هم يسيرون على القرآن، وإلا فليس أسلوباً صحيحاً، كل أسلوب آخر أعتبر أنهم قد جربوه وفشلوا، دعوة آخرين بعضها لها أربعين سنة، وبعضها خمسين سنة، وبعضها كم… وكم نزل إلى الساحة من كتب حول أساليب الدعوة، وكيف يكون الداعية، وتنظير واسع جداً أخفقت، كلها أخفقت، بل ظهر سلبيات كثيرة من داخلها وبسببها.
هذا هو الأسلوب الناجح يعني ماذا؟ أن نثق بالقرآن، نثق به تماماً أن فيه الكفاية، لا يعد يأتي ما تقدمه أنت إلا على هامشه، تقدم أمثلة معينة، توضح أشياء معينة في إطاره، لا يحصل عندك فكرة ربما لو هناك أيضاً شيء آخر، أو نحصل على شيء آخر، آيات، منهج، أساليب، أنه كان يمكن يصلح الناس، هنا يقول: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ}، تنزل هناك إذا يمكن تطلع لهم آية ربما يمكن تؤثر فيهم غير الآيات التي قد جاءت إليك {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}(الأنعام: من الآية35) في آن واحد بالنسبة لمن يهتدون، أو البشر جميعاً يهتدون، هو غير عاجز أن يجعل النفوس تهتدي، هكذا كل واحد يهتدي.
{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(الأنعام: من الآية35) لاحظ كيف قدمت هذه أنها طريقة جاهلين، ولأن القرآن هو تعليم للناس جميعاً، أن يوجه الخطاب إلى مثل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، يعني: أن القضية هامة جداً، يجب أن يعطيها أهمية كل من يتحرك من بعده على طريقته في دين الله؛ ولهذا يبين لك أنه فعلاً قد نكون جاهلين، طريقة جاهلين؛ لأنه لم نصل إلى درجة أن نكتفي بآيات الله في القرآن، وما يوجه إليه، من خلال القرآن، أليس أيضاً يوجه إلى كيف تكون نظرتك إلى الحياة هذه، من أول الآيات في الصفحة الأولى، في السورة هذه، في كيف تكون نظرتك للحياة، هو يعطيك من هداه إلى كيف تنظر للحياة، وسترى كم ستحصل على أمثلة، وشواهد كثيرة جداً جداً، في واقع الحياة، كلها ما زالت امتداداً لهدى القرآن.
إذا أنت ترى أنه ما يزال هناك شيء آخر، شيء آخر يمكن، ما يكون هناك ثقة بالقرآن، وما يوجه إليه القرآن، ويهدي إليه القرآن بأنه كافي، فوق الكفاية وليس فقط كافي بل فوق الكفاية، يعني هذا أن الإنسان يعتبر من الجاهلين؛ ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ((ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله))، نحن يجب أن نرتفع إلى الدرجة هذه، لا يكون واحد يقول: [فقط! احسب أنه ما يزال هناك في غيره، نحاول، نريد نقرأ ما يزال هناك أشياء! نريد نقرأ.] نقول: ممكن نقرأ على أساس ما قدمه لنا القرآن أن نتناوله في الحياة هذه، فعندما يقول لك: {قُرْآناً عَرَبِيّاً}(يوسف: من الآية2) إذاً نهتم باللغة العربية، أليس هكذا؟ نهتم باللغة العربية، ونهتم بتقديمها بالشكل الصحيح، وليس فقط قراءة قواعد فقط، نقرأ نفس المادة اللغوية: شعر اللغة ونثرها، ومن أهم المراجع فيها القرآن.
القرآن فعلاً يعطي للناس مجالات واسعة من التعليم، وكل ما نريد هو أن نترك الأشياء هذه التي أثبت الواقع أنها كانت خسارة على الأمة أن يتشبثوا بها، أشياء لا حاجة إليها نهائياً، أما إذا كانت أيضاً ضارة فعلاً فهي طامة كبرى.
أليست هذه الآية تقول لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يكون مكتفياً تماماً، الاكتفاء بما يأتيه من عند الله من آيات، وبما يهديه إليه من آيات، حتى تزول كلمة، فقط؟! ما تزال عندنا كلمة: فقط؟! فقط قرآن، قرآن فقط؟!، لو نفهم القرآن لكان الناس بشكل آخر، لكانت الأمة هذه بشكل آخر؛ ولهذا نقول: أنه فعلاً ظلمونا من قبلنا، ظلموا هذا الجيل بكله، لو سارت الأمة على القرآن، من أول يوم من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لكانت الأمة هذه أرقى أمة، لكان العالم – والله أعلم – في وضع يختلف عن هذا تماماً، والأمة هذه، الأمة الإسلامية تكون أرقى أمة حتى فيما يتعلق بمعارفها في الصناعات، ومختلف العلوم.
إذاً نريد القرآن فقط، أليس هذا أحسن؟! لأنه هنا يقرر رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يثق به، وفعلاً عندما سار على الطريقة هذه ألم ينجح، أقام أمة، وقضى على الشرك في المنطقة هذه كلها، ولم يمت إلا وقد هزم أكبر دولة مناوءة في عصره [الروم]، وأن الآخرين الذين ساروا على غير طريقته على الرغم من كثرتهم، وكثرة كتاباتهم، وتعاقب مئات السنين، وليس فقط عشرين سنة، نجح في عشرين سنة، والآخرين مئات السنين، مئات السنين، وإذا طريقتهم إنما دمرت الأمة هذه، ألا يكفي الناس عبرة؟ وإلا فسنكون من الجاهلين، ولن نقدم إلا جهلاً، ونتعلم جهلاً، جهل، جهل على طول إلى أن تصير شيبة، وأنت تقرأ تقرأ تقرأ، وجهل، وفعلاً ليس هناك من القرآن وكذاك إلا جهل، شيء مخالف للقرآن.
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، هذه القضية ثانية، أن تعرف أن ما معناه أنه أوكل إليك أنت صناعة الناس، أنت تبلغ، وتبين، وتتحرك على هذا النحو، هذه مهمتك {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(البقرة: من الآية272)، والقضية من بعد على الله، يتعامل الناس هم فيما بينهم مع الله، إنما التوجيه يقدم من عند رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يذكِّر الناس بالله، ويدعوهم إلى الله، ويهديهم إلى هدى الله، يقدم القضية فيما بينهم وبين الله، وهكذا، لا يكون عندك أنه ربما أنا شخص غير ناجح، أو ربما أسلوبي سيئ، أو.. أو.. إلى آخره، وأنت تتحرك على هذا الأسلوب الصحيح عندما ترى هناك معارضين لم يرضوا يسمعوا، ولا يفهموا، افهم بأنه لم يوكل إليك صناعة الآخرين، وهذه نقولها من قبل أنها قضية أساسية، أنه لا تقدر أنك أنت الذي تجعل الآخرين مهتدين، أنت تذكرهم بهدى الله، وهم يتعاملون مع الله، إما أن يهتدي الإنسان {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}(محمد: من الآية17)، أو يطبع على قلوبهم.
هذه مما غابت في موضوع الدعوة، هي قضية أساسية، وهامة؛ ولهذا في الأخير يبحثون عن أساليب، لاحظ بأنه لم ينجح بحث عن أساليب، وفتش عن أساليب، ناسي بأن القرآن يقدم أسساً للدعوة، ويقدم الأساليب الراقية للدعوة؛ لإقامة الدين في العالم، وليس فقط أنه يريد يدعو داخل شعب معين، يقدم الأساليب الراقية لإقامة الدين بكله في العالم. في الأخير يبحثون عن أساليب، ولن يطلِّع إلا أساليب يكون لها سلبيات كبيرة، ولاحظ الآخرين في موضوع الدعوة أليسوا يركزون على أشياء، ثم تراها في الأخير ليس لها قيمة، ضياع.
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}(الأنعام: من الآية36) يسمعون، ويعقلون ما يسمعون، ويفهمونه، ويحرصون، ويهتمون، هؤلاء سيستجيبون. الآخرون هم موتى {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}(الأنعام: من الآية36)، باختصار، سيأتي مثلما قال سابقاً، ألم يقل ويذكر كيف سيرجعون إلى الله، وسيبعثهم، وسيكون هناك ندامة وحسرة، وأشياء كثيرة، {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(الأنعام: من الآية36)، يجعل من لا يستجيبون موتى، وفعلاً أنهم يعتبرون أموات الأحياء الذين يقدم في القرآن {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(الأنعام: من الآية122)، فيكون الإنسان ميتاً، وميت ليس مثل ذلك الميت الذي قد صار في القبر لم يعد يضر بأحد، ميت يضر آخرين، أما ميت القبر قد صار هناك منتهي، لم يعد يعمل شيئاً.
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ}(الأنعام: من الآية37)، وهذه الأشياء! الأشياء الهامة الكثيرة إلى درجة أنه يحافظ على آثار من آثار الأمم الماضية، تبقى قائمة أمامهم، وآيات من خلال القرآن، وآيات يوجههم إليها وهم يسيرون في الأرض، وآيات كثيرة جداً، وبعد ذلك يقولون: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} يريدون آية من تلك الطامات، آية مثلما حصل لقوم عاد، أو ما حصل لقوم نوح، أو فرعون {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(الأنعام:37)، ما بقي إلا آيات من تلك الآيات التي لو نزل شيء منها لقضي الأمر بيني وبينكم، لن تكون آية مقبول أن تؤمنوا أثناءها، الآيات القاهرة، الكوارث التي كانت تحصل للأمم، لم يعد ينفع فرعون، ألم يحك عنه أنه قال آمنت وقد شبع ماء، قد طفح؟ {قَاْلَْ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ}(يونس: من الآية90)، لم ينفعه.
ولاحظ أنه يقول عن الفئات هذه كيف أنها خاسرة، وهذا من الخسارة الكبيرة، يكونون ناس عاصروا رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وشخص يعرفونه، منهم، يقدم لهم الآيات الواضحة، آيات كثيرة جداً، ومشغولين يعارضون مشغولين باقتراحات أخرى، إلى درجة أنهم كان بعضهم قد صاروا مستعجلين أنه يأتي بآية لو هي عذاب، يأتي بالعذاب هذا الذي يوعدهم، ستأتي في آية بعد. جاء في آية أخرى عندما قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}(العنكبوت: من الآية51)، ألا يكفيهم هذه الآيات؟!.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام:38)، هو قال هناك وهم يقترحون آيات: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(الأنعام: من الآية37)، وهناك أمم أخرى قد تكون أيضاً محط رعاية إلهية، قد يأتي مثلاً لاحظ بالنسبة لنوح يحمل من كل زوجين اثنين، قد يكون بالنسبة لبعض الأمم الأخرى محط رعاية إلهية إلا ربما في الحالة الأخيرة، وشيء إلهي يأتي من جهته لها فيما بعد.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الأنعام:39). إذاً تلاحظ في موضوع المخلوقات الأخرى، يقدم في القرآن في أكثر من مقام بأنه الأشياء الأخرى هي تسجد لله، المخلوقات الأخرى تسبح الله، والمخلوقات الأخرى تسجد لله؛ ليعرف الإنسان نفسه إنما هو أمة من الأمم الكثيرة التي تعبد الله؛ ليعرف بأنه عندما يتمرد على الله بأنه هل سيضعف جانب الله، أو أن الله حريص عليه أن يعبده، وما هناك من يعبده إلا هو, {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}(الرعد: من الآية15) ويذكر في آية أخرى بأنه يسجد له كل الدواب، وكل المخلوقات، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، هذه قضية هامة أن يعرف الإنسان بأنه واحد من المخلوقات من الأمم الكثيرة التي تعبد الله، هذا في إطار أن تعرف بأن الله غني عنك، عندما ترى هذا التكرير لآيات الله، والتبيين العظيم الواضح، والرعاية العظيمة، أنها من أجلك أنت، لمصلحتك أنت، وإلا فهو غني عن عبادتك.
حتى في المقارنة فيما بينك، وبين المخلوقات الأخرى، قد يكون هناك آلاف الطيور، ملايين أكثر منك تسبح له، هو غني عن العالمين، يحَس الإنسان بهذا حتى يعرف بأن كل دين الله الذي قدم إليه هو من أجله هو، ليس لأننا إذا ما عبدناه لن يكون هناك أحد سيعبده، الملائكة ملان السماوات مسبحين، عابدين لله {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}(الأنبياء:20)، وكذلك المخلوقات الأخرى حتى الجبال، وكل الطيور، وكل الدواب، أمم أمثالكم، ويقول أيضاً: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، هذه تعني إذا كان سيحشر أمماً من هذه أنت ستحشر أيضاً إذا كان سيكون داخل هذه حساب وعقاب، وأشياء من هذه، أنت في المقدمة؛ لأنك المخلوق الرئيسي هنا في الأرض، الإنسان هو المخلوق الرئيسي هنا في الأرض الذي استخلفه الله عليها.
هذه القضية نجدها متكررة في القرآن، ولها أثر إيجابي بالنسبة للناس، وبالنسبة لمعرفة الله سبحانه وتعالى، بالنسبة لمعرفة الله سبحانه وتعالى بأن نعرف أن الله غني عن العالمين، ألم يقل بأنه غني عن العالمين؟. فعندما تعرف كم في الأرض هذه، كم يحصِّل الإنسان من مخلوقات، كم نرى من مخلوقات، أشياء كثيرة أنها أمم تعبد الله، ثم ترى بأنه فقط نحن من نتمرد على الله، هذه كلها تعبده، إذاً بالتأكيد ليس بحاجة إلى عبادتنا له، أنه غني أليس هذا مظهراً من مظاهر غناه؟ وقلنا كلما نعرف اسماً من أسمائه، اعرف بأن هناك التدبير في العالم قائم أيضاً على أسمائه هذه، هو غني، هناك البراهين القائمة على أنه غني فعلاً، وتدبيره لهذا العالم على أنه رحيم وغني في نفس الوقت.
هذه ضربت في ثقافتنا بالنسبة للطيور، والمخلوقات الأخرى أنها لا تدري بشيء، أنها لا تدري بشيء، على أيدي المعتزلة، عزلونا هناك على جنب، لأنها لا تعرف شيئاً! هنا يقول: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، ويأتي في آيات أخرى يذكر بأنها تسجد لله، وتعبد الله، كل شيء يسبح له، ويعبده {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}(النور: من الآية41)، وقدم في القرآن بأنها تدرك في قصة الهدهد مع سليمان، وقصة النملة. قالوا أبداً هي لا تعقل، ولا تفهم شيئاً، هي فقط غرائز عندها، هي لا تدري بشيء؛ لأنها لو أنها تدري بشيء لكانت مكلفة! هنا يقول: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} بمعنى أنها نفسها، ولو أننا نراها صغيرة، قد نكون نحن بنو آدم بالنسبة لمخلوقات أخرى لا نراها لا نمثل إلا مثلما ترى النملة فوق يدك تماماً، نحن لسنا أكبر مخلوق، حتى يقول واحد: كيف قد تكون هذه النملة تدرك وهي صغيرة، أو مخلوق أصغر منها يكون يدرك، وربما هو عارف لله، ويعبد الله، ونحن نراه صغيراً، أنت صغير أمام الجبل، وهو مما يسبح الله، ما بالك قد يكون هناك ملائكة بأحجام كبيرة جداً، لا يمثل الإنسان عندهم إلا كالنملة بالنسبة للإنسان.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} أنها منوط بها مهام معينة، مسئوليات معينة بالنسبة لها، وتحشر، وهو يسمي يوم الحشر، يوم الفصل، أليس هكذا يوم الفصل؟ هي تدرك ومنوط بها مسئوليات معينة لا ندري بالتحديد ما هي إلا أنها من الأمم التي أمورها مرتبة، وهناك مسئوليات، ومهام منوطة بها.
بنوا إسرائيل عندما رأوا أنفسهم وكأنهم هم الباري بحاجة إليهم، لا يمكن يكون نبوة إلا منهم، لا يصلح دين إلا إليهم والباري لازم يراعيهم، ويعمل كلما يريدون وإلا فسيقلبون، وإذا قلبوا فلا يوجد غيرهم! هو قدمهم بهذا الشكل، نفسياتهم ترسخت عندهم هذه الرؤية إلى الآن.
لا، الله يقدم للإنسان بأن يعرف بأنه نوع واحد ربما من ملايين الأمم من المخلوقات الأخرى؛ لترى نفسك حسرة وأنت الذي استخلفك الله، وأعطاك – مثلاً – من الكيفية في خلقك ما يجعلك فعلاً مهيمناً في هذا العالم، يعني: المخلوق الأساسي في هذا العالم، فعندما تكون أنت أقلَب المخلوقات في هذه الأرض ألا تعتبر من الناحية الأخلاقية إساءة إلى الله؟ النملة هذه التي قد تدوسها بقدمك هذه تسبح الله، وتعبد الله أحسن منك؛ ولهذا قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}(الحج: من الآية18).
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الأنعام:39)، فعندما نرجع إلى أن الله سبحانه وتعالى رحيم، وحكيم، وحليم، تجد بأنه لن يضل أحداً إلا وقد وصل إلى حد لم يعد ينفع معه شيء، وإلا فهو يرحم، يعفو، يصفح، يتجاوز، يقدم الأشياء التي تعتبر هدى للإنسان، فإذا لم يعطها قيمة، ولم يعطها أهمية يضله، قد يضله فعلاً، لذلك يظل الإنسان مرتبطاً بالله دائماً لا يكون معتمداً على ذكائه، ولا على فطنته ولا يكون مقدر أن البادي منه هو، عندما يريد أن يقول للباري: سمعا وطاعة، وكأن ليس إلا هو في هذا العالم، هناك النمل، عدد النمل قد يكون جنب بيتكم أكثر من أهل القرية كلهم، تسبح الله، وتعبده، يعني: الله غني عنك، أنت وأهل قريتك، يكون عند واحد البادي منه، ثم عندما يتضح له الموضوع، ثم عندما يرى بعد [عسى إن شاء الله أنه سيصلح] لا، قد يضله الله، يكون الإنسان راجياً لله، وخائفاً من الله في نفس الوقت. إلى هنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله،،،
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
التعليقات مغلقة.