saadahnews

سورة الانعام الدرس الخامس والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

هذه السورة من أعظم سور القرآن الكريم، ومن خلال أسلوبها يتبين كيف هي شخصية الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) موجودة فيها بشكل ظاهر، توجيهات كثيرة إليه هو، توجيهات كثيرة، وفعلاً هي نزلت في مرحلة عمله لهداية الناس، وتبليغ الرسالة، ومن هذا نستفيد أن قضية التأهيل، قضية المعرفة، ليست أولاً تجهيز بنسبة مائة في المائة ثم انطلاقة، المعرفة مرتبطة بالحركة، بحركة الإنسان في الحياة، وهناك أسس ينطلق منها، وفي مسيرته يحتاج إلى مواصلة، ومتابعة في مسيرة عمله إلى ما يهتدي به، بهذا الأسلوب تكون المعرفة لها قيمة، تكون المعرفة ليست فقط مجرد ترف فكري – كما يقولون – أو مجرد تنظير، أو مجرد جدل، أو نقاش، أو أشياء من هذه، مسيرة عملية يترافق معها توجيهات، يأتي من خلال الوضعية هذه معرفة عالية.

نلاحظ نحن متى ما وصلنا إلى عند آية معينة، وكما نقول في القرآن الكريم: فعلاً لا يستطيع الإنسان أن يستوعب – ولا حتى ما قدمناه لا نعتبره شيئاً مما يمكن أن يعطيه القرآن – إلا شيئاً بسيطاً، آية معينة قد يكون مثلاً ما نستطيع أن نفهمها الآن لكن ربما بعد مرحلة في حركة الناس في الحياة، ومرورهم بأشياء كثيرة من خلال مفردات الحياة تعطي هذه الآيات شيئاً.

هنا أسلوب آخر فيما يتعلق بتقديم وحدانية الله سبحانه وتعالى في النفوس، أن يذكِّر هؤلاء الناس بقضية هم يلمسونها، أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وأنهم في واقعهم لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً، وأنهم في حركتهم في الحياة يمرون بأحداث يرون فيها بأنهم ما كشف عنهم، ما نجاهم من ضر، أو من كارثة إلا الله سبحانه وتعالى؛ ليقرر أن الإنسان محتاج إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً فلماذا وهو يرى أن تلك الأشياء التي جعلها آلهة لا تعمل شيئاً لا لنفسها، ولا لمن يدعوها ويعبدها؟، فلماذا يشرك بالله سبحانه وتعالى؟ مع أن الإنسان في واقعه، في حركته في هذه الحياة هو بحاجة إلى أن يأله إلى الله، يرجع إلى الله دائماً في كل أعماله، في كل أموره، وأنه بالنسبة له كمخلوق على هذا النحو لا يمكن لأي شيء آخر أن يأله إليه فيلبي حاجته على الإطلاق، أي: ليس هناك من يمكن أن يأله إليه الناس فيجدونه فعلاً في منتهى طلبهم إلا الله، كما سمَّا نفسه {الصَّمَد} سبحانه وتعالى، قالوا إن معناها: الذي هو منتهى غاية مطلب السائلين، يعني: ممكن مثلاً نحتاج إلى حاجة ممكن أنت تقدم خدمة فيها، لكن الإنسان في حياته يمر بأشياء تتجاوز كلما حوله، فيرى أن هذا ما ينفع فيها، والثاني ما ينفع فيها، وذلك ما ينفع، والكبير الثاني ما ينفع، وهكذا يحتاج إلى الله سبحانه وتعالى.

هنا يقرر هذه المسألة في نفوسهم: أن الإنسان يعتبر عندما يجعل مع الله شركاء، عندما يجعل مع الله أنداداً أنه يحط نفسه، وليعرف أن هؤلاء في واقعهم هم لا يمثلون شيئاً بالنسبة له، وأنه في حياته يحتاج دائماً لأشياء كثيرة تتجاوز كل أولئك، فلا يبقى أمامه إلا الله سبحانه وتعالى.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}(الأنعام:40) هل يمكن لهذه الآلهة التي تجعلونها آلهة، أو من تجعلونهم أنداداً من دون الله، هل يمكن أن يعملوا لكم شيئاً، أو يدفعوا عنكم شيئاً؟ لا، هنا يقر الإنسان بأنه في واقعه يشهد أنه مملوك لله، أنه عبد لله، أنه محتاج إلى الله، أنه لا يدفع أحد على الإطلاق شيئاً أراد الله أن يوقعه به، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} القيامة، فهل تستطيعون أن تدفعوها، أو يستطيع أحد ممن تدعونهم من دون الله أن يدفعوها؟ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الأنعام: من الآية40) بأنهم آلهة. {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ}(الأنعام:41) بل معلوم أنكم لن تدعوا إلا إياه، وهذا واقع، هم يشهدون به في حياتهم، متى ما تحركوا في البحر، وحصل عاصف من الريح، عرف بأنه عندما يدعو هذا الصنم لا ينفع، فهناك حاجة لا يمكن أن يوجه طلب قضائها إلا إلى الله سبحانه وتعالى.

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}(الأنعام:41) ومنها هذه الحالة التي قد تمر بالإنسان، أحيانا قد يمرض الإنسان مرضا شديداً فيرجع إلى الله، حتى وإن كان عنده مثلاً قضية تساؤلات، أو استفسارات، أو أشياء من هذه، متى ما حصل فيه مرض شديد ينسى كل تلك الحالات، بل ينسى الإنسان أي ثقافة تقدم إليه إلحادية، متى ما وقع في أمر من الأمور المخيفة، مثلما يذكرون عن أحد الرواد الروس، أنه في حالة انفجرت السفينة، أو لا أدري ما الذي حصل، وأنه مما أخذ من تسجيلاته أنه دعا الله، وهو ممن قد ثقفوا بثقافة إلحادية، ولا يحب أن يسمع الله، دعا الله.

فبعد أن قرارهم على أنهم هكذا واقعهم: محتاجون، وضعاف، لا يستطيعون أن يدفعوا شيئاً – لا هم، ولا من يدعونهم من دون الله – عن أنفسهم على الإطلاق، يذكر بأنه احتمال يحصل كهذا، وقد حصل في الماضي، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}(الأنعام:42) لم يستطيعوا أن يدفعوا، آل فرعون ذكر أنه أرسل عليهم مجموعة أشياء، جراد وقمَّل وضفادع ودم، ولم يستطع فرعون ولا جنوده، ولم يستطع أن يقدم شيئاً، أن يعمل شيئاً، جراد وقمل وضفادع، أشياء بسيطة، رجعوا إلى موسى {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ}(الأعراف: من الآية134).

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} البأساء والضراء معناها: المصائب فيما يتعلق بالأجسام، وفيما يتعلق بالممتلكات، شدائد، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، عسى أن يتذكروا من خلال ما أصابهم فيرجعون إلى الله.

{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}(الأنعام:43) هلاّ إذ جاءهم بأس الله تضرعوا إلى الله، ورجعوا إليه؛ لأنه اكتشف لهم بأنه ما استطاعت آلهتهم أن تدفع، ولا يستطيعون هم أن يدفعوا، شيء يعلمون أنه من جهة الله، أشياء محدودة ليس العذاب الذي يأتي، عذاب التنكيل، {فَلَوْلا} يعني: لو أنهم تضرعوا عندما جاءهم هذا البأس {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:43) متى ما قست قلوب الناس لا تعد تنفع معهم الآيات مهما كانت.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}(الأنعام:44) في هذا يتبين لنا سنة إلهية، الناس بحاجة إلى معرفتها بشكل واسع، هنا تحسنت أحوالهم، وبدا لهم وكأن الأمور صلحت، وكأنه لم يعد عليهم شيء {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، خيرات: أموال، وأشياء من هذه، لكن ليست إلا ماذا؟ في طريق أن تكون الضربة عليهم شديدة. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} هنا يتأكد الإنسان بأنه فقط النعم التي يجب أن ترتاح لها، وتطمأن إليها، النعم التي هي من الله سبحانه وتعالى؛ لاستقامة الناس على طريقته، أما نعم أخرى فاعتبر ما هي إلا ماذا؟ وسيلة من وسائل العذاب فعلاً، وهذا – مثلما نقول – إنه فعلاً تقطع على الكثير من الناس، لأنه فعلاً للأسف الكثير من الناس عندهم هذه القضية يعني: من السهل أن يميل عن الحق، يميل عن مواقف حق، يمشي بعد الباطل مع أهل الباطل؛ لأجل يحصل على مصالح، وحصل له بيت، حصل له كذا، حصل له أشياء، وعنده صلحت له الأمور {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ}(المائدة: من الآية71) مثلما قال سابقاً.

لا، لا يمكن في عدل الله سبحانه وتعالى – على ما يتبين من خلال الكثير من الآيات في القرآن الكريم – أن يترك الآخرين وكأنهم متنعمين ومرتاحين، وهناك بالنسبة لأوليائه يقول لهم أن يضحوا بأنفسهم وأموالهم، وإن لحقهم بأساء وضراء فلا يبالوا، فهل سيترك الآخرين أن يتنعموا، يتركهم يتنعموا؟ لا، هي على هذه الطريقة، وهي تعتبر فترة قصيرة، والإنسان بطبيعته عندما تمر به مثلاً ثلاثين سنة من عمره في أعلى نعيم يتصوره في هذه الحياة، هو يعتبره حلم، أليس حلماً؟ هل الإنسان يتذكر الماضي، نعم في الماضي؟ لا، تصبح وكأنها حلم، تكون الضربة عليه شديدة جداً مثلما قال في آية أخرى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(التوبة:55).

هنا تكون المسألة قد هي عبارة عن ماذا؟ عن ما يسمى استدراج، أو إمداد، تصبح أنت يقسو قلبك، وتبتعد عن الهدى أكثر، وعندك [ما هناك خلة، وها أنت هذا ما أصابك شيء بسبب أنك ما مشيت بعد طريقة حق، ما لحقك شيء، وهي هذه أمورك سابر، وأمورك مستقيمة] بل قد تحاول تقول لآخرين: [تعال معنا، لاحظ معنا أشياء والدنيا سابرة، لا تمشي مع ذولا عندك الصعاليك، ما معهم شيء] هنا أليس الإنسان يبتعد عن الهدى، ويتمادى في غيه؟ في الأخير لتكون الضربة شديدة عليه.

وفعلاً متى ما كان لدى الإنسان ممتلكات تكون الضربة شديدة جداً عليه، إذا أنت فقير ليس بيدك شيء تكون المسألة طبيعية عندك، مثل حالتنا الآن، هل أحد منا متألم مثلاً أنه انقلبت عليه قاطرة؟ الآن هل يوجد أحد؟ لا يوجد. لو أنه كان لديك قاطرة، وانقلبت عليك القاطرة، كيف ستكون أنت الآن؟ ستكون في حالة، لا يهنيك القات، ولا تعرف ماذا يقول الناس، وفي حالة سيئة، وتبحث كيف إذا بالإمكان أن يحصل لك من أي جهة مساعدات أو… المهم ألم شديد، أليس ألألم سيكون شديداً؟ الآن لا يوجد.

هي هكذا، الإنسان قد يدخل في مواقف باطلة، وقد يستجيب لأهل الباطل، وقد تعرض عليه إغراءات، وفجأة ما عرفت إلا وقد استطاع أن يبني له بيتاً، ولا عرفت إلا وقد اشترى له سيارة، وما تدري إلا وقد معه كذا، وما تدري بعد ويضربه الباري ضربة شديدة، يرى نفسه كلما كان معه وإذا هو ليس إلا كمثل من يجمع الفحم حوله؛ ليكون الإحتراق كبيراً، ليكون الإحتراق من حوله، احتراق النار شديد، يلتهب بشكل أشد.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} هو غني، ثم في الأخير يرى نفسه بأنه سيفوت عليه كذا، وسيفوت عليه كذا، وسيفوت عليه كذا، وسيفوت ويفوت، ويعدد، ويكون هو يتعذب أمام كل قضية لوحدها.

الآن حسب تصورنا كيف ستكون الآن نفسيات كثير من الحكام العرب، والمسئولين الكبار، والتجار الكبار الآن في المرحلة هذه؟ كيف سيكونون؟ أصحاب المناصب الكبيرة، والممتلكات الكبيرة، والأشياء الكثيرة…. عندما يتذكر أن أمريكا متجهة عليهم، وأمريكا هذه لم يعد هناك من يردعها، وفي الأخير يتذكر منصبه، ويتذكر أنه في يوم من الأيام قد يكون إما يقتلونه، أو يصبح منفياً في أي بلد آخر، مطرود من بلده، أو يرى نفسه أن القصور التي هو فيها يمكن أن يفارقها، السيارة التي يركبها يرى بأنه ممكن يفارقها، حدائقه، مزارعه، وإذا هو يرى كل ما الإنسان يعتبره نعمة قد صار يراه، وينظر إليه بشكل يتألم، يتألم كلما رأى شيئاً تألم؛ لأنه سيفارقه.

وتحصل أمثلة في الحياة، لاحظ صدام كيف كانت قصته قصة غريبة، قصة رهيبة جداً، يصل الأمريكيون والبريطانيون إلى داخل قصوره، ويعبثون بها وبأثاثها، ويحطمون صوره، ويحرقونها، المهم قضية نعوذ بالله أصبحت حتى الصورة التي كان يحاول يعممها في كل مكان، أصبحت وسيلة لتعذيبه، خزي، أصبحت الصورة نفسها، لأن صدام فعلاً عندما زرنا العراق عنده اهتمام بقضية صوره، في كل مكان حتى في بعض الصحاري خارج في الطرق ما بين المدن يكون هناك صورة موجودة لوحدها مثل أكبر جدار، ومعها مولد كهرباء لوحدها، وشبك من هناك محيط بها لوحدها، وكشافات! المهم كم يمكن أن تكلف الصورة لوحدها، وفي الأخير ترى ألماً، تتحول تلك الصور نفسها إلى وسيلة خزي له؟ هكذا تكون العواقب، لأنه هكذا بالنسبة للقرآن الكريم قطع كل المجالات أمام الناس جميعاً، أمام من يفكر تفكيرات أخرى، يجب أن يفهم بأنها كلها خسارة؛ لأنه قدم كل شيء هو عدول عن هداه هو خسارة لا شك فيها كيفما كنت أنك ستخسر. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} وأشد الأسى والحزن الذي يأتيك في حالة فرح، فرح بما أوتي [قد الأمور سابر] {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}، مفلسون، آيسون، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام:45).

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}(الأنعام:46)، أنكم حتى فيما هو داخل أجسامكم، في تركيبتكم أنك محتاج إلى الله فيها، وأنك لا تستطيع أن تدفعه لو أراد أن يأخذها، هذا يعني بأنه ماذا؟، أنه النافذ أمره حتى إلى ما هو مودع في جسمك {سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}(الأنعام:46) يقدم هذه بأنها آيات، آيات مؤثرة، أدلة – إذا صحت العبارة – أدلة، آيات مؤثرة فعلاً، هذه كلها لا تقدم آيات في علم الكلام، على طريقة الاستدلال لمعرفة الله!.

هنا يحسس الإنسان بأنه كل شيء بيده، كل شيء معه، كل شيء فيه لا يملكه، لو أراد الله أن يأخذه منه لا يستطيع يدفعه عنه، إذاً فليقر بأنه ملك لله، وأنه عبد لله، وليعرف بأن تلك الآلهة التي يدعونها، وأولئك الأنداد الذين يدعونهم ليسوا جديرين بأن يدعوهم، ولا يعبدوهم، ولا يعملوا لهم شيئاً. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ}(الأنعام:46) نقلبها، نلون الآيات ونشكلها وننوعها، ثم هم مع هذا، على الرغم من هذه الآيات {يَصْدِفُونَ}، ينصرفون، يبتعدون.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}(الأنعام:47) يعني: هل أحد يستطيع أن يدفع، أو آلهتكم تدفع، أو من تتخذونهم أنداداً، وتجعلونهم أكبر من الله في أنفسكم، هل تدفع؟ لا يمكن، وعندما يأتي عذاب الله فيهلك به من هلك إنما يهلكون وهم ظالمون.

فإذا كانوا في نفس الوقت عندما يتحدث معهم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أو أي أحد من الدعاة إلى الله يظنون وكأنهم أمام ذلك الشخص، وماذا يملك ذلك الشخص، يقول: أولئك الرسل الذين قد تكونون تستخفون بهم، أو عندكم بأنه لا تخاف منه هو، يجب أن تفهم إنما هم مبشرون ومنذرون، أما من يملك العقاب والثواب، ويملك أن يؤاخذكم هو الله، أليس هنا يذكرهم به سبحانه وتعالى، هذه نقطة هامة جداً، نقطة هامة جداً وأساسية في الدعوة إلى الله، أن لا تقدم نفسك أنت بحيث يرى الناس وكأنك أنت الذي تدعو… وفي نفس الوقت يرون أنك لست بالشكل الذي يخافون منك، ويرونك بأنك لا تملك الشيء الذي يمكن أن يضرهم، أو ينفعهم، قد يكونون مستخفين بك. يجب أن تملأ مشاعر الناس، وأنفس الناس بالخوف من الله، تقول: هذه من الله، هدى الله، تذكرهم بالله، تخوفهم بالله، وهكذا.

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}(الأنعام:48) هذه الآيات الهامة التي يأخذها البعض بفهم آخر، يقول: معنى مهمة الإنسان، وحتى الرسل أنفسهم إنما فقط يبلغون، ويدعون، إن استجابوا فلا بأس وإلا لستُ عليهم بمسيطر. نتأمل كيف تأتي في مقامات هامة جداً؛ لأن هذا هو الشيء الطبيعي الذي يحصل، أليس الفراعنة، أليس المصريون استخفوا بموسى؟ عندما ينظرون إلى موسى فيجدونه إنساناً فقيراً بعصاته، عندهم هذا لا يملك شيئاً. إستخفهم فرعون بمظاهر فرأوا بأنه هو يملك..، وهذه تجدها مترسخة في ذهنية الناس، يعني: لم تقدم لهم معرفة الله سبحانه وتعالى بالشكل الذي تكون مشاعرهم كلها مليئة بالخوف منه، باستشعار رقابته، يكون عنده ذلك الطرف هو يخاف منه، وهذا الذي يتحدث هنا لا يخاف منه، حاول يمشي بعد ذلك الذي هو خائف منه أنه سيعاقبه.

هنا يقول: الرسل الذين ترونهم يدعونكم هم مبشرون ومنذرون فعلاً، هو لا يملك يعاقبك لكن وراءهم الله، يذكرهم بالله، يخاطب هو المشركين. يقول: تنصرفون من أجل أنكم تفهمون أن هؤلاء الناس وكأنهم لا يملكون شيئاً تخافون منه، وكأنه يقول: أنا وراءهم أنا، أنا الذي أعاقب، أنا الذي.. مثلما ذكر هنا بأنهم لا يستطيعون أن يردوا أي شيء يأتي من جهته على الإطلاق.

{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(الأنعام: من الآية48) هذا تهديد مبطن – مثلما يقولون – يعني: الذي لا يؤمن فسيقع فيما يخاف منه، وفي أسوء ما يخاف منه مثلما جاء بعد: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}(الأنعام:49) إذاً أليس هنا يوضح لنا تماماً المغزى، أو نقول: الغاية من وراء {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}؟، لأنهم عندما يكونون يسمعون رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، يعرفون أنه يقدم هدى الله، والله بعد هداه، هو الملك، هو المهيمن، يعلم ما يسرون، وما يعلنون، وما يكسبون، وما يعملون، وفي الأخير سيضربهم ولا أحد يستطيع أن يدفع عنهم.

هي قضية أساسية فيمن يدعو الناس إلى هذا الدين، أن يدعوهم إلى الله، أن يرسخ في أنفسهم معرفة الله، والخوف من الله، دائماً يكون الغالب على مشاعرهم أن يدعوهم إلى الله يخوفهم بالله، وإلا فقد يقارن بينك وبين أطرف مدير ناحية، من أصغر واحد إلى أكبر واحد في الدنيا هذه مثلاً بوش، أليس هو سيقارن بينك وبين أمريكا؟ لاحظ الذين يقارنون بيننا وبين أمريكا أليسوا يهاجمون من يرفع شعار؟ لأنه يتصور هذه الجهة لا يخاف منها، لكن الآخرين يخاف منهم، هنا أليس هناك حاجة ماسة إلى هذا الأسلوب القرآني، أن يقول لهم: القضية لا تعتقدوا بأن الذي أمامكم محمد، أو موسى، أو عيسى، أو فلان، وأنتم ترونه فقيراً، وليس لديه جنود، ولا معه أمن، ولا معه أشياء من هذه، لا، ذكِّرهم بأنه هو رقيب على كل شيء، وهو الذي سيعاقب ويثيب من رجع إليه.

يحتاجها الناس أنفسهم، المؤمنون يحتاجونها أن تترسخ لديهم الفكرة هذه، عندما ترى الآخرين يتجرءون عليك لا يحصل عندك شعور بأنك فعلاً ضعيف، وأنهم انفردوا بك، أبداً، أنت جندي من جنود الله، عندما يأتي جندي من طرف الدولة، وحصل عليه اعتداء أليس هو سيكون متذكراً بأنه من دولة، وأن الرئيس بعده، والجيش بعده؟ أليس هو يتصور هكذا؟ هذا الذي يجب أن يترسخ عندك، وإلا فقد يحصل عندك حالة من الغربة، وحالة من الضعف: أن أولئك فعلاً انفردوا بنا، ولا هم يخافون منا، وفي الأخير تحاول إذا ما عندك فهم تبحث عن شيء تجعلهم يخافون منك، تبحث عن أي دولة تساندك، هذه التي يقع فيها بعض الأحزاب، حزب معين مثلاً معارض، وقد أصبح إلى درجة أنه معادي لحزب حاكم، يريد في يوم من الأيام يرى نفسه قد صار متمكناً؛ ليهبط هذا الحزب، ويضربه، ويزيح رموزه، ويزيح قياداته من الساحة فلينسق مع أمريكا، وليتفق مع أمريكا؛ من أجل أن يحصل على قوة كهذه، ونفوذ كهذا! أليس هكذا يحصل؟ لأن الله غائب في أذهانهم.

هناك الكثير من الناس عندما تقول: انطلق في هذا الموضوع سيطرح عليك هذه الفكرة: [ما معنا ولا، ولا..] أليسوا يقولون هكذا؟ وإلا خلاصة الموضوع أننا نريد أن نتجند مع ملك السماوات والأرض فقط، نحن جنود. ناسين لهذه، لكن لو يأتي مثلاً وقالوا: الجهة الفلانية لازم ترفع هذا الشعار وإلا [سينفِّذون] عليك، مثلاً يأتي له أمر ولو من مدير ناحية سيقول: الله أكبر، الموت لأمريكا… الخ. ولو يقولون: سبع مرات سيرفعه سبع مرات لماذا؟ لأنه هنا قد صار خائفاً من هذا، لو لم يكن مؤمناً بالقضية سيرفع الشعار، إذا قد هو يأتي له أمر ولو من أطرف عسكري.

كلها الإشكالية هنا أن الناس يكونون ناسين لله أنه قوة، وأنه وراء كتابه وأنبيائه؛ ولهذا لاحظ كيف وجه سبحانه وتعالى رسوله إلى أن يقول: أنا شخصياً {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}(الأنعام:50) يعني أنا شخصياً لست بالشكل الذي يهددكم أنا، إذا أنتم تنظرون إليَّ كإنسان ليس لديه سلطة، ولا جنود، ولا جبروت مثلما يكون مترسخاً في نفوس الناس؛ لأنه مترسخ في أنفسهم [الأبَّهة] هذه، جهة معينة، وعندها أمن، وعندها سجون وعندها كذا ستضرب، هذه هي التي يمكن أن ينقاد لها، ويراها جديرة بأن تدعو إلى شيء ولو كان باطلاً سيمشي معها.

يقول: لا، {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}(الأنعام:50) معناه ماذا؟ {أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(الكهف: من الآية110) مثلما جاء في آية أخرى، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}(الأنعام:50) معناه ماذا؟  أنا فقط جندي من جنود الله أوحى الله إليَّ أن أبلغكم هذا القرآن، أن أنذركم بهذا القرآن {وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام: من الآية19) كما قال في آية سابقة، أليس هذا نفسه ما يزال في نفس الإطار، أي: لاحظ كيف تقدم القضية من جهة الله سبحانه وتعالى كأسلوب، في الآية السابقة: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}(الأنعام: من الآية48)، ثم يوجه نبيه أن يكون هذا أسلوب يسلكه هو، أن يقول هكذا للناس: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أليس معنى هذا أنه يقرر في أنفسهم [الله] الذي أوحى إليَّ هو وراء ما أوحى، يثيب ويعاقب؟.

فمن لا يكون على هذا النحو يعتبر أعمى فعلاً، أعمى وسيعتمي في أموره، ونحن نراهم فعلاً، الكثير ممن يعتمون كيف يتخبطون، الذين يمسكون من يرفع الشعار في الجامع هم في عمى، ومنطلقون من هذه الانطلاقة، هم يرون أن الجهة التي ترفع الشعار لا تمثل شيئاً يخافون منه، والجهة التي يسترضونها بأبناء بلادهم، بإخوتهم، هي الجهة التي يخافون منها، أمريكا، هنا يقارنون بيننا وبين أمريكا، أليست هكذا؟ ناسين أن يقارنوا بين أمريكا وبين الله، ويعتبرون أن هؤلاء جنود من جنود الله، الذين يمسكونهم ربما بعدهم الله، في يوم من الأيام سوف يضربهم، ويضربهم بالأمريكيين أنفسهم، أو بالقاعدة، أو بأي جهة، الله يقول: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}(الحشر: من الآية2) هذه القضية هامة جداً، يجب أن تتقرر، وأن تترسخ في نفوس الناس.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}(الأنعام:50) بعد ما ذكّرهم سابقاً، بأنه لاحظوا أنتم لو أراد الله أن يأخذ سمعكم وأبصاركم هل تستطيعون أن تدفعوا؟ لو أراد أن ينزل عليكم عذاباً كما قال هناك: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} كما قال سابقاً، يعني: بعدما قررهم بأنهم شيء يجب أن يعرفوا بأنهم لا يستطيعون أن يدفعوا، إذاً فافهموا بأن وراء الرسل الله الذي أنتم تعرفون بأنكم لا تستطيعون أن تدفعوا شيئاً يأتي من جهته، هم مبشرون ومنذرون، والعقاب بيده سبحانه وتعالى.

وهنا ذكر فيما يتعلق بالحياة هذه، وأيضاً التخويف بالآخرة {وَأَنْذِرْ بِهِ}(الأنعام:51) بهذا القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ} لاحظوا كيف حركة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) كلها حول القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ}، {وَذَكِرْ بِهِ}، {يَهْدِي بِهِ}(المائدة: من الآية16) وهكذا. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأنعام:51) كما أنهم يجدون أنفسهم هنا في الدنيا أنهم فعلاً عندما يأتي شيء من جهة الله لا يعد يبقى لهم من دونه لا ولي ولا شفيع، أيضاً يبقى الآخرة هي أشد عندما يرون جهنم، ويرون أنه لم يبق لا ولي ولا شفيع من دون الله، لا من يتخذونهم آلهة، ولا من يتخذونهم أنداداً من دون الله.

لأنه إذا كان العرب السابقين يتخذون أصناماً من دون الله، حجر، أو خشبة، أو أي شيء من هذه، صنم يسميه إله، أيضاً يوجد باب آخر موجود: الأنداد من دون الله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}(البقرة: من الآية165) عندما تكون هناك معارضة، وقد تكون معارضة من أشخاص وجهاء، ومن أشخاص من قُبُل هامة، وأشياء من هذه، وهم نوعية مثلاً بالنسبة للذين عندهم يرونهم مستضعفين، وليسوا إلى درجة أن يجلسوا معهم، [أطردهم من عندك ونحن سنسلم!] هنا قد ربما يقول واحد: إذاً بدل ما يكون عندي ناس ضعاف مساكين لن يستطيعوا أن يعملوا شيئاً، إنما فقط حالوا دون وصول الآخرين الذين سيسلمون وسينفعون..، أليس أي واحد سيقول هكذا؟ لا، ليست القضية بهذا الشكل.

وهنا تلمس أيضاً كيف تكريم الله للإنسان فعلاً، تكريمه للناس جميعاً، وتكريمه قائم على أساس من يتبع هداه، هنا يقول: هؤلاء الذين عندك لا تطردهم على الإطلاق، لو كان سيسلم مائة زعيم من زعماء القبائل، يسلمون ويتجهون إلى عندك فقط يقولون: لكن نحن نريد أن لا يكون عندك ناس من النوعية هذه، الذين حولك؛ لأن هؤلاء ما يصلحوا نهائياً، ما يصلحوا أن يدخلوا في هذا الإسلام نهائياً، الإسلام لا يجعل نفوس من يدخلون فيه على هذا النحو، هذه نفوس جاهلة.

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنعام:52) وهذه حصلت، ويبدو أنها كانت في معظم مراحل تاريخ الأنبياء، يسارع إلى الإسلام كثير من الناس المستضعفين، والآخرون يقولون: هؤلاء أراذلنا اتبعوك، ناس نحن لسنا مستعدين أن نجلس معهم أبداً، يعني: لسنا إلى درجة أن نجلس معهم، نجلس معك في مجلس هم فيه، ناسين أنه هو يجلس معهم! أليسوا ناسين بأنه يجلس معهم هو وهو أشرف منهم وأعظم منهم، يجلس معهم، لاحظ كيف جاء بالأعمى في [سورة عبس] يأتي يقوده [ليخربط] الإجتماع الذي كان مع مجموعة من وجهاء قريش.

هذه قضية هامة جداً، والإنسان إذا لم يكن عارفاً كيف يقيِّم الناس، وعلى أي أساس، ويعرف أن هذا دين الله، وأنه باب واحد يدخل منه الناس جميعاً، وأن من واجب من يدخل – وإن كان كبير عشيرة، أو زعيم أو كيفما كان – أن الإسلام يجعله بالشكل الذي يعطف على هؤلاء، وليس أن يطردهم، أليست هذه تربية القرآن في آيات أخرى؟ بالنسبة للمساكين، الأيتام، الفقراء، وهؤلاء يريدون أن يطردهم، لا يصلح يجلسوا في مجلس وهم فيه!.

البعض من الدعاة، أو من أصحاب مدارس معينة، يكون عنده أنه يريد يحافظ على المذهب، أو يريد يحافظ على كذا يكون عنده فعلاً لا يريده، يمكن يبعد هذا إذا كان سيستجيب له فلان وفلان فقط يشرطون عليه بأنه لا نريد الصعاليك يجلسون عندك، قد يقول لهم: هيا، يذهبوا من عنده.

بما أنها قضية ملموسة أن الإنسان إذا كان في حركة معينة، وهو يرى بأنه يبدو من معه هم مجموعة مستضعفين وناس حتى بعضهم قد يبدو أنهم أغبياء، وأشياء من هذه، لا يحصل عندك فكرة بأنه [لو يدخلوا آل فلان لو يدخل فلان وفلان وفلان] فتكون أنت تعتبر حركتك بأنها لا تمثل شيئاً؛ لأن ما فيها فلان وفلان وفلان، من علماء وزعماء عشائر، ومثقفين، وتجار، وشخصيات، وأشياء من هذه؛ إن القضية تكون بالعكس قد ترى كثيراً ممن هم على هذا النحو تراهم أكثر الناس تخوفاً؛ لأن عنده منصب، مقام معين، أو مال – هذه القضية ملموسة – ليس مستعداً أن يتحرك معك في مجال ربما يؤثر على منصبه، أو يؤثر على مصالحه، إذاً هذا لا ينفع، سينفع أولئك الذين هم صعاليك ليس معه ما يخاف عليه، أليس هذا سينفع أكثر.

ثم تجد بأن هذا حصل في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان يوجد في قريش شخصيات عباقرة وصناديد ووجهاء في المجتمع، وأشياء من هذه، لم يستضعف نفسه؛ لأن الذي عنده من الموالي وشخصيات بسيطة من الطبقة المستضعفة في المجتمع، هؤلاء – لأن الله هو الذي يبني النفوس هو – الله سيجعلهم عباقرة، ويجعلهم مقتدرين، ويجعلهم أقوياء، وهذا حصل، والآخرون يتهمشون، يصبحون لا شيء.

هذه قضية أساسية لا تحتقر أحداً، ولا تحتقر وضعيتك، ومن معك على أساس ما معك فلان وفلان وفلان وفلان، وفعلاً كان أولئك المستضعفون مع رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، كان بعضهم ممن جثم على صدور الصناديد والعباقرة والوجهاء يوم بدر، ممن جثم على صدره، ورأينا من بعد هؤلاء المستضعفين كيف أصبحوا ولاة في مناطق في داخل بلاد فارس وغيرها، وبعضهم ربما كان يمر من عنده فلا يتنازل أن ينظر إليه، لا يعتبره شيء نهائياً.

يثق الناس بالله أنه هو الذي يبني النفوس، متى ما اتجه الإنسان بإخلاص إليه، لا تستضعف نفسك أنت، أيّ واحد لا يستضعف نفسه، أو يستضعف جهة هو فيها، يتحرك على أساس أنه لو كان معنا..، لا معنا سيدي فلان، ولا القاضي فلان، ولا الشيخ فلان، ولا فلان، ولا المسئول الفلاني، ولا معنا صحفيين، ولا محللين استراتيجيين، ولا..، من هذه الألقاب، أبداً، يثق الناس بأن الله سيعطيهم نوراً مثلما وعد عندما قال: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}(الأنفال: من الآية29)، ولأن الإسلام يتسع للجميع، يتسع للجميع فعلاً، حتى في مجال العمل له، مجال العمل لإعلاء كلمة الله يتسع للجميع؛ لأنه عمل واسع جداً، ويتسع لكل الفئات، إنما من يكون قائماً على موضوع إقامة دين، يجب أن يكون فاهماً بالشكل الذي يستطيع أن يعطي الآخرين، يبين لهم بأن هذا الدين هو رحمة من الله، ونعمة، يتسع للكل، أنت قد تكون من طبقة مستضعفة معينة، قد لا تكون فعلاً إلى درجة أنك تنزل الميدان تقاتل، لكن باستطاعتك تقدم خدمات كثيرة في سبيل الله، أليست هذه القضية واضحة؟ والأقوياء باستطاعتهم أن يواجهوا، عمل واسع جداً، يتسع للأبطال، ويتسع للأقوياء، ويتسع للذين هم أخف منهم، والذين من بعدهم، وللكل، وهذا من النعمة على الناس، ومن مظاهر تكريم الله للإنسان؛ لأن الله قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء: من الآية70).

فإذا واحد فاهم هو يستطيع يشغِّل الناس جميعاً للدين، لا يحصل عنده يقول: [إما ذولاك أتركهم ماذا سيفعلون للدين! ذولاك الذين يكبرون، هم ملان المسجد لكن لو يأتي شيء ما ثبت إلا القليل] قلنا: يشتغلون هكذا الآن ويكفي [فَكَّه]، ربما يهيئ الله من هؤلاء الناس، ويهيئ من غيرهم، كل قضية سيهيأ لها أهلها، كان رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يحشد الناس معه، ويحشد أشخاصاً هو يعرف ليسوا صناديد مواجهة لكن هو عمل طريقة جديدة في الحرب صف، يصف أصحابه من هناك إلى هناك، ورآهم العدو هناك أمة، هذا الشخص يشكل رقما، أليس هو يشكل رقماً هناك، إلى آخره.

في مواجهة أهل الكتاب بالذات، لاحظ كيف؛ لأنهم هم الله ضرب عليهم ذلة ومسكنة، هم يخافون من الجمهرة هذه، مزعجة لهم جداً، حشد لهم ثلاثين ألفاً، كم بين الثلاثين ألف هؤلاء؟ هل كلهم صناديد؟ بل كان هناك ظاهرة عامة عليهم أنهم في حالة انكسار نفوس؛ خارجين يواجهون دولة كبيرة، مثلما تقول الآن: قبيلة معينة يتجهون لمواجهة أمريكا، لكن سمع العدو أولئك ثلاثين ألفاً! لأن العدو نفسه، لا تعتقد بأنهم صناديد كلهم، وهم هكذا تجد بينهم أبطال، وبينهم كثير..، وإذا هناك أبطال الباري سيملأ قلوبهم رعباً، وأولئك فيهم رعب من بيوتهم، وسمعوا ثلاثين ألفاً خرج بهم محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، ثلاثين ألفاً يعني هؤلاء يمكن أنهم شرسين كلهم، اتخذوا قراراً بأنهم يتراجعون، ولا يواجهون.

ومجال واسع لك شخصياً، لك شخصياً، أنك تبذل أكبر جهد في سبيل الإسلام ممكن لدرجة أن تواجه مواجهة مسلحة، وتقاتل في سبيل الله، وتستبسل وتضحي، هذا ممكن، أليس مفتوحاً؟ لا يكون هذا الباب محصوراً فقط على فئة، باسم أي فئة، ممكن إذا عنده روح استبسالية حيّاه الله وإلا… فهو عارف (صلوات الله عليه وعلى آله)، كان يعرف كيف، ولكل فئة، ولكل طبقة، ولكل قبيلة، ولكل شخص المجال الذي يستطيع يتحرك فيه.

هذا مما يؤكد أنها تكون أسهل للناس من ناحية المسئولية، إذا هم في وضعية إقامة دين، ولديهم من يقيم الدين برؤية صحيحة، أن المسئوليات تخف على كثير من الناس، بينما إذا ما هناك أحد يكونون مسئولين جميعاً، لأنه ممكن مثلاً أهل مدينة معينة، أو أشخاص معينين، أو شخص معين هو يعلم حالتهم، يعلم وضعيتهم ممكن يقول: [تمام أنتم اشتغلوا في مجال كذا] واعتبر عملهم كاف، عالم مثلاً، أو مجموعة علماء قد يكون مثلاً عندهم تخوف، أو قد هو يرى نفسه شيبة، أو أشياء من هذه متى إذا ما هناك أحد يعمل يكونون مسئولين جميعاً، إذا هناك من يقيم أمر الله يكون ماذا؟ باستطاعتهم أن يكونوا مؤيدين.

ما يزال مجال باب التأهيل مستمر، وفعلاً قد يكون بعض الطبقات لا تستطيع أن تعمل شيئاً في ظل وضعية معينة لكن في وضعية أخرى قد يكون لها دور فاعل، وهكذا.

فالإسلام يستوعب الأقوياء من أول يوم، يستوعب الذين بعدهم، يستوعب الذين بعدهم، يستوعب الذين بعدهم، يستوعب الكل، ولهذا يأتي بخطاب: يا أيها الذين آمنوا، أليس يا أيها الذين آمنوا؟ لأن كل مؤمن يستطيع أن يشتغل، وكل مؤمن هو مدعوّ إلى ميدان يتسع له مع الآخرين كيفما كانت وضعيتهم، من ناحية التركيبة الإجتماعية، أو باعتبار البيئة الحاصلة، باعتبار الوضعية الحاصلة، لاحظ كان رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، هكذا، يحرك المجتمع، نفس المجتمع، ذلك المجتمع على ما هو عليه، لا يوجد عنده فكرة أنه أولاً يدرسهم، يدرسهم، يدرسهم، يحميِّه، يحميِّه، يحميِّه، وفي الأخير يفلته. لا، ناس يسلمون وقال: هيا يسرح معهم، يسرح معهم، يسلم أول يوم، وثاني يوم يسرح معهم، ولأن الله يتدخل في بناء النفوس، هذه القضية أساسية، يرفع معنويات الناس، يشد قلوبهم، يربط على قلوبهم، ينير أفكارهم فيصبح الذين كانوا يرون أنفسهم أغبياء في الأخير يصلون إلى أن قد عندهم قدرة، عندهم قدرة في إدراك الأشياء، في فهم الأشياء، في تحليل الأشياء، رؤية الأشياء، وهكذا.

لهذا أنها تعتبر معجزة للإسلام نجاح رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، تعتبر معجزة في حد ذاتها، لاحظ عندما تتأمل القرآن كم فيه من أعداء يتحدث عنهم، أعداء صناديد، وأعداء مكارين، وأعداء متآمرين، من مشركين، من كل الفئات: مشركين، ويهود، ونصارى، ومنافقين، ومع هذا اجتاز الكل، ألم يكتسح الكل؟ وصدَّر ما كان يعمل هؤلاء؛ ليبين لك بأنه هكذا الدين يعلو فعلاً، يعلو إذا هناك من يتحرك على أساسه، ألم يصدر في القرآن ماذا كان يقول الآخرون، أصحاب الدعايات، والمتآمرين، كلها صدرها هنا؛ لترى بأنه فعلاً معجزة أنه خرج من بين هؤلاء، واكتسحها، وهمش كل هذه الفئات: اليهود، والنصارى، والمشركين، والمنافقين، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة: من الآية48).

معنى هذا أنه بإمكان أي إنسان ينفع الإسلام، وكلما تطورت قدراته سينفع أكثر، كلما ارتفعت معنوياته سينفع أكثر، وهكذا، هو لا يوقف المسألة على أنه أولاً يعمل له مدرسة خاصة هناك، [أولا يقريهم، يقريهم..] يقول: [أولاً يقرأ يقرأ يقرأ إلى أن يصير…] هو هذا نفسه (صلوات الله عليه وعلى آله)، يُقرِّيه الله في الميدان، أليس الله يقريه في الميدان؟ القرآن ينزل عليه وهو يشتغل.

فهي قضية أساسية: أن الإنسان لا يحتقر أحداً، وهو نفسه لا يحتقر نفسه، يكون عنده [ماذا يمكن نعمل للإسلام، ماذا سنعمل، وماذا بإمكاننا أن نعمل] هذه رؤية قد تأتي له من جهة الشيطان، إعرف بأن باستطاعتك أن تنفع الإسلام في الوقت الذي أنت فيه، وهذه القضية معروفة، نحن نرى أن الناس يستطيعون أن ينفعوا الإسلام ولو لم يكن إلا برفع شعار، أليست هذه القضية معلومة؟ في المسجد بين الناس مهما كان ضعفك، لو خوفك كيفما كان، ومع الجماعة بين الناس ما هم عارفين مَن، أليس هذا ممكناً؟.

ولهذا يحاولون، لاحظ كيف هم يحاولون، قالوا: [فقط يكون خارج المسجد، ويكون بعد كذا]، عارفين الذين هم خوَّافين سيتركونه، لكن عندما يكون بعد الخطبتين في تلك الوقفة سيكبر الناس كلهم، وسيحسب أهل المسجد مكبرين، مثل حينما تدخل على هذا المجلس وهم مكبرين، هم لن يقولوا: أنت يا فلان، هل بالإمكان أن يطابقوا بالقلابات إلى عند المساجد ويقولوا: [هيا، أهل المسجد كلهم إلى السجن] هل هذا ممكن؟ لا، ولا ينتقوهم، يقولون: [من الذي كبر؟] كلهم كبروا، إذاً فأمكن لواحد يكبر ولو كان يرتعد من الخوف، أنه ممكن يكبر ولو كان يرتعد من الخوف.

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}(الأنعام:53) الله هو الذي يعلم، إن الله يعلم بالشاكرين المستجيبين، لا يبحث عن كبار الشخصيات، وكبار التجار من أول يوم؛ ولهذا يخاطب المؤمنين جميعاً، هو لا يقول: يا أيها الرئيس، يا أيها الوزراء، هل هو يخاطب بالشكل هذا؟ يا أيها القادة والضباط؟ يخاطب المؤمنين جميعاً، وهو أعلم بالشاكرين.

فالفئة هذه في الأخير يقولون: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، يعني: مثلما نقول: ليسوا جديرين بأن يمن عليهم، لو يريد أن ينصر دينه لبحث للناس الأقوياء الشجعان، يبحث عن ذلك الذي في الطائف، وذلك الذي في مكة، ألم يقولوا هكذا من البداية؟ {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(الزخرف: من الآية31) أنه لا بأس ذلك القوي إذاً يستجيب وسيظل قوياً؛ ولهذا تلاحظ كيف كان عمل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، هل هو يحاول أن يحط أحداً من مقامه؟ لا، لم يكن يحاول أن يحط أحداً من مقامه، لكن أسلم وإلا ستنحط أنت، استجب وإلا فستنحط، وسترى من تقول: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، أنت ستراهم فوق، وهذا الذي حصل في تاريخ الإسلام، في بدايته، في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).

فهي فتنة للطرفين {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، هذه واحدة بالنسبة للمستكبرين، أصحاب النفوس المتكبرة، وفتنة للناس أنفسهم الذين يرون أنفسهم أنهم من عامة الناس، من المواطنين – الذين يسمونهم – من [الرعويين، رعوي] على تعبير أهل صنعاء، أنهم هم يجب أن يكونوا واثقين بالله، ويعرفوا بأنهم معتزون بعزة الله؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى أولئك إذا لم يرضوا أن يستجيبوا، لسنا بحاجة إليهم.

ولهذا كان السبق، فضيلة عظيمة، السبق؛ لأنه قد يكون في معظم المراحل تبدأ الأشياء بناس مستضعفين فقراء، ناس يراهم الآخرون لا يملكون شيئاً، حتى من هم مؤمنون بقضيتهم لا يتفاعلون معهم، يكون عندهم [ماذا يمكن أن يعملوا؟!] أليسوا يقولون هكذا؟ [عمل باهر لكن ماذا يمكن أن يعملوا؟!]، أليسوا بحاجة إلى أن يفهموا الآيات هذه، الله يقدم الموضوع بأنه هو وراء كتابه، وبعد هداه، هم يرونهم [ناس باهرين وشباب طيبين وباهرين لكن ماذا يمكن أن يعملوا؟ ماذا سيعملون؟!] لكن إذا أنت فاهم، ادخل معهم، والثاني يدخل معهم، وحاولوا تدخلون معهم حتى يستطيعوا يعملوا شيئاً، لكن يقول: [هؤلاء ماذا يمكن أن يعملوا] وجلس هناك، جلس هناك خارج، وقد صار يعتبرهم أنهم لن يعملوا شيئاً، ولا هم ناجحين في شيء، وجلس هناك بعيداً عنهم، أليس هنا ستفوته فضيلة السبق؟ لأن السبق يقوم على أساس إيماني بحت، السبق عادة يقوم على أساس إيماني خالص، أما وقد صار الناس قوة جبارة، أما وأنت قد صرت تلمس نجاحات كبيرة تنطلق معهم، هذا هو طبيعي بالنسبة لك ولغيرك، لكن في البداية يكون الناس في وضعية قد يكون الاحتمال، بل ربما يكون الكثير قاطعين بأنهم لن ينجحوا في أعمالهم، لا ينطلق إلا من هم ماذا؟ من يسمون: سبّاقين، وفي نفس الوقت لاعتبار إيماني بحت، ليس من أجل أننا قد أصبحنا قوة، أو من أجل أن قد معنا، أو من أجل قد يستطيعون، أو أشياء من هذه، لا، ثقة بالله، ويجب أن ننطلق على هذه الطريقة؛ لأن الله هكذا أراد منا أن ننطلق عليها.

وإذا خسر الإنسان مرحلة السبق، فلا تتعوض؛ لأن السبق هو مرتبط بمرحلة وقتية من الزمن، وقتية، أنت لا تستطيع أن تعيد عجلة التاريخ؛ ولهذا قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}(الحديد: من الآية10)، قبل فتح مكة، {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، لكن لو تعمل ما تعمل لا تستطيع أن تعمل تلك النقلة، تلك مرحلة مرت. وهنا يؤكد في تربيته للناس على أن يكونوا سباقين ومسارعين، ثم يذكر فضيلة السابقين، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}(الواقعة:10 – 11).

الله سبحانه وتعالى هكذا يتعامل مع عباده {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؛ لأن الله هداه هو يعتبره نعمة، ويعتبره فضلاً، فهؤلاء هم الجديرون بأن يعطوا هذا الفضل، وهذه النعمة؛ لأنهم سيشكرونها، وأنت ابقَ هناك، انتظر هناك، يتكبر يجلس هناك، ما هو متنازل لما ما يدري إلا وانحط إلى آخر درجة، وضاع، وتهمش تماماً.

كان يدخل في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، كان يأتي بعض الوفود، شخصيات، زعماء عشائر واحترمهم وقدرهم، وأسلم، وأعاده إلى منطقته، لا يقول له: ابعد عن مقامك، هل كان يقول له هكذا؟ لا. إذاً أليس هنا يحصل الإنسان على تكريم؟ تكريم في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى ما تمسك يقول: أبداً..، ما زال يراعي مقاماً معيناً عنده، في الأخير يهبط إلى الحضيض، ويتجاوزه الناس، ويتجاوزه الزمن، والتاريخ، ويعتبر خاسراً في الدنيا وفي الآخرة.

لاحظ كيف الرعاية الإلهية بالنسبة لهؤلاء المستضعفين الذين يحتقرهم الآخرون، يذكر الباري بأنهم محط عناية ورعاية إلهية، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنعام:54)، أليس هذا رفعاً لمعنوياتهم، التفاتة إلهية مباشرة إليهم مقابل إعراض الآخرين، وكبريائهم، والذين ينظرون إليهم بأنهم لا يمثلون شيئاً {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} ألم يأت بالتفاتة مباشرة إليهم؟ ويأمر رسوله هكذا أن يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، إذا أنتم ترون الآخرين يحتقرونكم لا تظنوا أنه ربما فعلاً نحن في واقعنا محط احتقار حتى عند الله، لا، لاحظ هذا مما يدل على أنكم محط تكريم ورعاية إلهية.

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}(الأنعام:55) يبين الباري في القرآن كل شيء، يبين لك طريق المؤمنين، طريق الحق، وسبيل المجرمين، تشخيصهم في نفسياتهم، تشخيص رؤاهم، تشخيص أعمالهم.

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ}(الأنعام:56) أليست هذه السورة مليئة {قُلْ إِنِّي} {قُلْ لا} {قُلْ}، رعاية وحركة على طول وهم في ميدان المواجهة، في ميدان العمل [لم يبنٍ له أولاً منزلة هناك ويجلس يهاجر ست عشر سنة وبالكاد ناصف…!]، لا، وهو شغال {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أليست السورة هنا نفسها تركز على هذا الجانب، جانب ترسيخ أن وراءه الله، أنه إنما يتبع ما يوحى إليه، هو مأمور هو أن يقول هكذا، ومنهي أن يقول: كذا كذا، ما قيمتها أنه يرسخ في أنفسهم الله سبحانه وتعالى؟ وقضية هامة من الناحية الواقعية باعتبار المرحلة التي هو فيها وباعتبار هكذا دائماً حتى لا يكونون ينظرون إليه هو هو، يشدهم إلى الله، يجلسون يخافون من الله، أو يرجعون إلى الله، لا عندي خزائن السماوات والأرض فترجوا وتطمعوا عندي، ولا أعلم الغيب، أقول لكم إنه بعد فترة كذا سيحصل كذا، كذا، وهكذا يقول لهم: أنه هو منهي كما هم منهيين، يتوجه إليه النهي كما يتوجه إليهم النهي تماما: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وليشعرهم بأنه على طريق لا يتزحزح عنها على الإطلاق.

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}(الأنعام:57)، من ربي، وليس بعبقريتي، بثقافتي، بفلسفتي، بحنكتي، أو أشياء من هذه، النوعية هذه تضيع {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وأنا في طريقي هذه على بينات واضحة، وأعرف أين أنا، وأين أسير، من الله، {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} قد هم عجالين أنه يأتيهم بآية عذاب، هكذا من حماقة الكثير من البشر في مراحل الأنبياء، في مراحل النبوة يقولون: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(الأعراف: من الآية70). {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} هذا شيء بيد الله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} فمتى ما أراد هو سيفصل بيني وبينكم، ويفتح بيني وبينكم.

ثم يذكِّرهم بأن ما تستعجلونه بأنها حماقة عندما يطلبون هذا الشيء وبعجلة، لأنه لو جاء هذا الشيء لا يعد ينفعكم شيء، لا يعد ينفعكم إيمانكم {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}(الأنعام:58) لأنه ما هو الشيء الذي يستعجلونه به؟ عذاب. عندما يخوفهم بأنه قد يأتي لهم عذاب يجتاحهم كما حصل لهم في الماضي قالوا: هيّا، هات! بل بعضهم قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}(الأنفال: من الآية32) أليست هذه تعتبر حماقة؟ يقول: فاهدنا إليه وليس أن يقول: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أوْ ائتِنَا بِعَذَاْبٍ أَلِيْمٍ}(الأنفال: من الآية32)!.

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}(الأنعام:59) بعدما قال هناك: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}. {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وهذه قضية علم الغيب من الأشياء العجيبة، الأشياء التي اختص بها الله سبحانه وتعالى، هي من الأشياء العجيبة جداً، علم الغيب، أنه يعلم ما سيقول المجرم في جهنم، ما سيقول، ويخبرهم الآن بأن المجرم سيقول كذا كذا في جهنم.

{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} إحاطة علمه، هذه آية عجيبة؛ لهذا أنه يعتبر الإنسان خاسراً عندما يتولى غير الله، من هو الذي يمكن أن يكون على هذا النحو تتولاه من الناس، يكون محيطاً بكل شيء علماً.

{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} تلاحظ هنا كيف يقدم موضوع معرفته سبحانه وتعالى، أليس هنا يرسخ في نفسية الإنسان أن يكون مستشعراً أن الله لا يغيب عنه شيء، ويعلم كل شيء، ويعلم بما يسر ويعلن، ويعلم بكل ما يعمل؟ أليست هذه قضية هامة في اندفاع الإنسان نحو الإهتداء بهدى الله، والخوف من الله، والرغبة إليه؟. تقدم معرفته داخل القرآن في ميدان عملي، معناه في إطار الحديث مع آخرين، والحديث مع آخرين يؤثر فيهم نفسياً؛ لينطلقوا، ليست مجرد أفكار تقدم، أو مجرد معلومات تقدم، مثلما يأتي عندما تفرد لوحدها، عندما تفرد لوحدها كفنٍ خاص، في الأخير تبحث كمعلومات، ومسائل نظرية، وأبحاث، وترى أمامك كله كلام ناس، كله هناك.

هنا تجد منهجاً آخر، أحياناً يذكر غيبه، أحياناً يذكر قدرته على كل شيء، أحياناً يذكر علمه بكل شيء، أحياناً يذكر ملكه، وأحياناً كذا، ويأتي بها خلال توجيهات عملية؛ لأن معرفته هي الأساس، هي المحرك في الواقع، إذا كنت تخاف الله، تعرفه معرفة في إطار توجيهات عملية، في إطار عمل، هنا تنطلق في هذا العمل، تمثل دفعة لك، تمثل انطلاقة معرفتك لله سبحانه وتعالى، وليس فقط مجرد الحصول على عقائد صحيحة، عقائد داخل! حركة، حتى معرفة الله تقدم في إطار حركة وعمل، وليس فقط أقرأ كتاباً معيناً من أجل أحصل على عقائد صحيحة، وانتهى الموضوع، وأقول: الحمد لله قد اهتديت، وجلس، لا، ليست الأمور بالشكل هذا.

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}(الأنعام:60) استرسال في هذا الأسلوب، يذكرهم بأنه هو المالك لهم، والمهيمن عليهم، ولا يستطيع أي إنسان على الإطلاق أن يرد أي شيء من جهة الله، لا يستطيع أن يفلت من يد الله على الإطلاق؛ ليقرر في أنفسهم عبوديتهم لله. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} النوم يعتبر استيفاء؛ لأنك عندما تنام أشبه شيء بالموت، لا تعد تصبح في حالة تملك لنفسك شيئاً، هنا تكون في قبضته، والنوم نفسه أليس هو يأتي للإنسان بطريقة لا يستطيع على الإطلاق أن يحدد بدايتها؟ أو يكون معه مفتاح نوم يطفيه مثلما يطفي [اللمبة]، لا يدري واحد متى بدأ النوم، ولا يستطيع أثناء النوم أن يعمل لنفسه شيئاً.

{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} يعني: في النهار، عندما يستيقظ الناس، ينامون في الليل ويستيقظون في النهار؛ ليقضى أجل، حتى يأتي الإستيفاء النهائي: الموت، {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فيبين هنا بأن الإنسان في قبضته، هنا في هذه الحياة، وسيرجع إليه لا يملك لنفسه أي ممانعة أن لا يبعث، سيبعث، وسيساق، وسيحاسب {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهكذا يذكرهم مع أنهم ما يزالون مشركين، أليس هذا الأسلوب من أساليب القرآن الواضحة التي ترد على المتكلمين، وتبين طريقة خطأهم، وأنها طريقة فعلاً فاشلة طريقتهم؟ هنا يذكر، يخوف مشركين لم يؤمنوا بعد بالآخرة يقول: أنتم سترجعون، وسيبعثكم، وسيحاسبكم، وسيدخلكم جهنم، وستقولون في جهنم كذا كذا.

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}(الأنعام:61) فوق عباده جميعاً، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}(الأنعام:61 – 62) نحن الآن نقرأ أصول دين – على ما يقول الآخرون – لأن أصول الدين بمعناها الصحيح هنا، هم يسمون [علم الكلام] أصول دين، وهو اسم غلط، أساساً هو اسم غلط، على أساس أنه يتناول قضايا هي الأصل في الدين، لكن يتناولها بشكل يجعلها تقريباً وكأنها لا شيء، يكون خلاصة تأثير الإنسان به يبعده عن أصول الدين.

هنا يأتي أحياناً بحديث عن الآخرة، وأحيانا حديث عن الدنيا، يبين من خلال أشياء معينة أنهم فعلاً يرون أنفسهم في الدنيا لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ثم يقول: هكذا هناك في اليوم الآخر ستكونون بنفس الطريقة، وهنا كذلك لا تستطيعون أن تصرفوا عن أنفسكم أيّ عذاب يأتيكم من عند الله إذا لم تؤمنوا به.

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(الأنعام:63)، وكأنكم تقولون، أو تقولون فعلاً: اللهم نجنا، وإذا أنجيتنا سنكون من الشاكرين لك، أليسوا هنا سيصلون إلى حالة لا يألهون إلى أي شيء آخر إلا إلى الله؟. {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}(الأنعام:64)، هو الذي نجاكم، وهو الذي يمكن أن ينجيكم من هذه الأشياء التي أنتم تعرفون بأنكم تصل بكم القضية إلى أن تدعوه وحده {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أليست هذه حماقة؟.

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}(الأنعام:65)، في هذه الحياة يجعلكم فيما بينكم تتضاربون، {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، بمعنى أنه مدبر لشئون السماوات والأرض، ولو عندك أن هناك وضعية معينة وكأنها قد صارت مبرمجة على هذه الحالة! لا، هو يستطيع متى ما اقتضى تدبيره، أو غضب على ناس يأتي متغيرات جديدة، وإذا قد هذا يضرب هذا! وكانوا هم أصدقاء بالأمس.

أليست أمريكا الآن متجهة لتضرب أصدقاءها؟ كان قد عندهم أن قد برمجوا الدنيا هم، قد برمجوها، علاقات مع أمريكا، وصداقة، ولم يعد هناك إلا أمريكا، وسيجلس يحكم، يحكم إلى أن يموت، ثم ولي العهد، أو ابنه أو أخوه أو.. يقول: لا، {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}، فرق تتناحر فيما بينها، {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يخاطب بهذا من؟ يخاطب المشركين؟ أليس المسلمون الآن، المؤمنون بحاجة إلى أن نعرف هذا؟.

هذا المنطق يقرر في أنفسهم: أن الله هو المالك لأمرهم، أن الله هو المدبر لشئون السماوات والأرض، أنه هو القادر على أن يصنع المتغيرات، إما ينزل عذاباً من فوق، أو من تحت، أو يضرب الناس بعضهم ببعض، بحيث ماذا؟ لا يكونون خائفين إلا منه، ولا يألهون إلا إليه، ولا يرجون إلا إياه. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}(الأنعام:66)، أليس هو الآن يردهم كذاك؟ الله هو…

{لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(الأنعام:67)، مثلما قال في الآية السابقة، لكل نبأ مستقر، مثلما يقول: قد يأتي في يوم من الأيام ويتجلى كل شيء، مثلما قال في الآية السابقة: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الأنعام:5)، ولكل نبأ مستقر: حين، أجل، وقت. الآن، ألم يتجل لنا قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة: من الآية120)؟ أليست واضحة عندما تتابع أخبار أمريكا وإسرائيل، وأخبار العرب معهم وتعاملهم؟ هذه واحدة من هذه، لكل نبأ مستقر، وتجد كم هناك من أشياء كثيرة جداً تتجلى في واقع الحياة شواهد لهذا القرآن الكريم.

وقد تأتي مثلاً مصاديق الأشياء، أو تأويل الأشياء، وتكون بشكل يعلم الناس، لكن تكون ضربتهم. العرب الآن قد تكون الحكومات نفسها فاهمة أن أمريكا متجهة لضربها، البعض يأتي منهم عبارات تدل على أنهم فعلاً قد هم متأكدين على أن قد هم رائحين رائحين، مضروبين مضروبين، إذاً لماذا لا يهتدون ويرجعون إلى الطريقة الصحيحة؟ ربما لم يعد ينفعهم، قد تأتي مرحلة متى ما أصبحت عقوبة فلا يمكن أن يهتدوا لمخرج على الإطلاق، فمتى ما اشتغل يشتغل على نفسه، على نفسه، يسكِّت إذا ما زال هناك ناس ممكن يتحركون في يوم من الأيام قد يشكلون حماية أو دفاع أو… [اسكتوا ولا كلمة] نغمض أعيننا حتى يأتي العدو!.

هذا أيضاً – مثلما قلنا سابقاً – كيف يوجه نظر الإنسان إلى كيف تكون نظرته في الحياة، تنظر إلى القرآن، وتنظر إلى الواقع، وهكذا تجد هنا ستحصل على المعارف الكثيرة فيما يتعلق بمعرفة الله سبحانه وتعالى، فيما يتعلق بمعرفة سنن الحياة، بهذا الشكل تعرف الحياة، وتعرف الأمور، لكن النظرة الأخرى التي صرف المتكلمون أذهان الناس إليها، إلى القضية المفروغ منها، التي لا تحتاج إلى بحث ولا جدل، إثبات [أن الله موجود]، وهنا يبين في القرآن شهادات من داخل كل الأمم أنهم معترفون به، ومقرون به، ويشغلون فكرك حتى تكون منصرفاً تماماً عن أن تتأمل في واقع هذه الحياة، في المتغيرات فيها، وفيما أودع الله فيها من أشياء.

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(الأنعام:68)، ينطلق، يبتعد عنهم، يخوضون في آيات الله يعني: أخذ ورد بطريقة استهزاء، وسخرية، وتكذيب، فهنا توجيه مُوجّه إلى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، وإلى الناس جميعاً. {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأنعام:69) يبتعدون، أن يأتي التوجيه إليه هو أن يبتعد هو ليبتعد الآخرون؛ لأنه أحياناً قد يكون في الآخرين من لا يزالون بسطاء، قد يتأثرون من خلال أن يسمعوا تكذيباً، وخوضاً وسخرية؛ لأن بعض المضللين، والمكذبين يكون عندهم قدرة، قد مردوا، ومرنوا، قد عندهم خبرة في التكذيب، ومحاولات التأثير، يبتعدون. ولأن الإنسان يكون في مسيرة في موضوع الهدى، هنا يبتعد، قد يكون غيره ممكن أن يرسل إلى أولئك الناس، ويحاول يُبَكِتَهُم، ويقررهم على خطأهم، ولو تسير أنت ربما تتأثر. إذاً فالقاعدة الرئيسية بأن يبتعدوا نهائياً.

من يخوضون في آيات الله أحيانا قد يكون الشيء الذي يشجعهم أن يخوضوا فيها بتكذيب أن يكون عندهم واحد أو اثنين من الطرف الآخر فيكونون حريصين على ماذا؟ أن يؤثروا عليه، إذا ما هناك أحد عندهم فلن ينطلقوا أن يخوضوا بتكذيب، وأشياء من هذه، يفوت عليهم فرصة، تضييع لعملهم، أليس هذا يعتبر تضييعاً لعملهم؟ أنه لا يجد من يشتغل معه، إنما فقط يكون فيما بينهم هم، فيما بينهم هم يخوضون، ويكذبون، ويستهزئون هم فيما بينهم، لكن هم لا تكون القضية عندهم، لا يرتاحون لها، يريدون أن يكون هناك واحد من الطرف الآخر من أجل يؤثرون عليه.

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}(الأنعام:70) أليس هنا بدأ بالتوجيه بان يعرض؟ {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ}.. إلى آخره؟. هذا على أساس ماذا؟ هناك مسيرة عملية، ومثلاً هو في مكة يتحرك يعمل يدعو يوجه يحاول، وأنت في مجتمع كهذا من الطبيعي أن ترى مظاهر سيئة، يرى حتى من هذه المظاهر: ناس يخوضون في آيات الله بالتكذيب، فعندما يقول له: أعرض عنهم، هل على أساس أنه يعني: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل))؟ يعني: يفهم القضية بمعنى أعرض عنهم ويكفي، واجلس في بيتك وليس لك دخل، أو أشياء من هذه؟ هو يعرض عنهم وهو يعمل، وسيأتي في يوم من الأيام يضرب هؤلاء الذين يستهزؤون بآيات الله، ويسخرون بها ويخوضون فيها على هذا النحو.

لم يقدم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أن يأخذها بعض الناس معناها: [ابتعد ولا دخل لك]، أنت في مسيرة عملية، وهذا الشيء الطبيعي للإنسان، أيِّ إنسان كان، في أي مجتمع يصلح، أنه يرى مظاهر شاذة أمامه، قد يرى مظاهر شاذة، ما يصبح واجبه هنا أنه فقط يبتعد عنها باعتباره مؤمن، أن يبتعد عنها وما له دخل وأشياء من هذه، هذا شيء قد يكون مناسباً، لكن القضية الأساسية أنك تعرض وأنت في مجال عملي، أنت تستطيع تغير هذا في يوم من الأيام.

ويأتي التهديد: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} هذا الدين العظيم الذي يقدم إليهم فيخوضوا فيصبح محط سخرية {لَعِبَاً وَلَهْوَاً} أو استبدلوا به ما هم عليه من لعب ولهو فلم يستجيبوا له.

{وَذَكِّرْ بِهِ} أي: ذكر بهذا الدين، ذكر بهذا القرآن، ذكر به الناس جميعاً {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} ليخاف كل إنسان أن يأتي في يوم من الأيام يصبح يسلم نفسه مقابل ما كسب من أعمال سيئة؛ لأن هذا معناه في الأخير: أن الإنسان يسلم نفسه تماماً {تُبْسَلَ} أي تسلم تماماً مقابل ما كسبت فتودع في جهنم {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} إذا كانوا ربما في بعض الحالات، وقد يكون هو الشيء المتوقع، يجتمعون ليشربوا [وسكي] ويشربوا خمر، ويخوضوا في آيات الله، وسخرية من هذا {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} يذكرهم بدل وهو يشرب ويسخر، كيف سيكون مصيره حتى ما يقابل ذلك الشراب يشرب حميماً يقطع أمعاءه. وهذا من أساليب القرآن الكريم، أليس كل مرة يذكر شيئاً فيما يتعلق بالجنة، أو بالنار؟ مقامع من حديد، ومرة يقول: شراب، ومرة يقول: حسرات، ومرة يقول كذا… أي الحالات التي أنت هنا في الدنيا تمر بها، هناك ما يقابلها.

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى}(الأنعام:71) هذا أيضاً في إطار هذا أنه استنكار لما هم عليه، وبيان لأنه على طريقة واثق من صحتها إلى درجة أنه يقدم وكأنه لا يمكن، هل يمكن منا أن ندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا؟ أليس هنا يذكرهم في نفس الوقت، يذكرهم بأن ما يدعونه، ويعبدونه من دون الله، هو لا ينفعهم، ولا يضرهم، وفي نفس الوقت يبين أن رؤيته هي الصحيحة، وأن ما هو عليه من هدى الله هو الصحيح. وفيها سخرية بهم، فيها سخرية هذه، أن من يخوضون في آيات الله هم الذين يعتبرون محط سخرية، وهم يدعون من دون الله ما لا ينفع ولا يضر.

{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى}، يمثل حالتهم كيف هم، كشخص استهوته الشياطين، استمالته وأضلته، وله أصحاب حريصون عليه يدعونه إلى الهدى {اْئْتِنَاْ} فحالة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، معهم هكذا هو يدعوهم إلى الهدى ويقول لهم: أوتوا إلى الهدى. {قُلْ}، لاحظ كم في هذه السورة من قل {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فيما لو جاء أحد بعد أن قدم مثلاً معيناً يقول: [لكن الهدى الذي معك ليس مثل هدى أولئك الذين يدعون صاحبهم إلى أنه يرجع إليه]. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وهو الهدى الذي أدعوكم إليه، {وَأُمرْنَاْ} أنا وأنتم {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام: من الآية71)، فهنا تعليم للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، بشكل مكثف في السورة هذه، تعليم بشكل مكثف؛ ولهذا تلاحظ أنه عندما يلاحظ واحد في مخلوقات الله، ألست ترى مثلاً [المطوي حق الذرة] ألست ترى بأنه يكون ملان حب، مرصوص، كيف لا يمكن أن يكون كلامه مرصوص معاني، مرصوص مفاهيم، مرصوص قيم، وهو يرص لك [مطوي حب] تراه مليء بالحب.

لاحظ دائماً كيف يرجع إلى المسألة هذه يقررها دائماً في الذهنية، المسألة: هو من عند الله، من عند الله، نسلم لله، أنا نهيت كما تنهوا أنتم، وأنا مأمور كما أنتم مأمورين، وأشياء من هذه، قضية هامة في كل مجال، حتى في هذا الموضوع عندما يقدم مثلاً {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} إلى آخره. يقول: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، أليس هنا يبرز في الصورة دائماً يقدم الله في الموضوع دائماً أمام كل قضية.

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(الأنعام:72)، هنا الخطاب موجه للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، والمسلمين معه، وهو في نفس الوقت يعتبر عرضاً لهذه القضايا الدينية الإيمانية أمام الآخرين من عباده، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} لأنه لا يقال للمشرك نفسه يقيم الصلاة وهو لا يصلي، ولا هو حولها، لكن سيعرف الآخرون أن هذا الدين فيه صلاة، فيه زكاة، فيه كذا، فيه، فيه،… الخ. يعرض عرضا كاملاً لهذا الدين أمامهم، معظم قيمه بطريقة ليس فيه أوامر مباشرة لهم هم؛ لأنهم ليسوا محط أن يؤمروا هم مباشرة فيما يتعلق بالتفاصيل، أو ببعض التفاصيل مثل: صلاة، زكاة، أشياء من هذه.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}(الأنعام:73) أليس هنا يمزج أصول دين مع فقه مع دعوة مع.. وكلها في ميدان عملي، ولكل قضية منها أثرها في النفس. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} في يوم القيامة {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، يذكرهم بالله سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه خلقها بالحق، ولا يمكن لمن خلقها بالحق أن يترك من يلعب ويلهو فيها دون أن يؤاخذه، ودون أن يعاقبه. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أليس هذا يعني بأنها بيئة صالحة للحق؟ لدينه وهو الحق، ولمن يتحركون من أجل دينه ليعمموا هذا الحق في أرضه؟ أما إذا تطورت الأشياء فمع تطور الأشياء فمعناه ماذا؟ فممكن يكون الحق هذا في السماء وفي الأرض؛ لأنك ترى الآن باطلاً في السماء، ممكن الآن باطل في السماء عن طريق القنوات الفضائية، والأقمار الصناعية التي تتجسس للأعداء، ومثل الطائرات، وكم فيها من المضيفات السيئات، ومن الخمور، ومن الأشياء هذه، الباطل الآن في الأرض وفي السماء.

معناه: أن الأرض والسماء هي أساساً صالحة للحق، إذا هناك من يعمل للحق، ويعرف كيف يقدم الحق، وكيف يتحرك للحق، أنها بيئة صالحة له، ما يقال بأنه [هكذا الدنيا هذه لا يصلح فيها حق ولا ينتصر فيها إلا أهل الباطل وأهل الحق يكونون مساكين… وإلى آخره] هذه رؤية خطأ. هنا يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، لأن السنن التي فيها، السنن الكونية، كلها منسجمة بالشكل الذي تتلاءم مع الحق، لا يصطدم بها الحق؛ لأن الله حكيم لا يخلق شيئاً هناك، ثم يخلق حاجة هناك، ثم لا يدري من بعد وإذا تلك قد أثرت على تلك، وتلك صدمت تلك، لا يمكن هذا؛ لأنه حكيم يعلم كل شيء.

{قَوْلُهُ الْحَقُّ} لا يترك القضية هكذا، لكن في الأرض هذه، وفي المجال الذي ما بيننا وبين السماء نفسها قد هي مليئة بالباطل، عندما يكون خلق السماوات والأرض بالحق، وقوله الحق، وهذا هو قوله، دينه، معناه بأنها قابلة لأن يسود دينه فيها.

{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في يوم القيامة سيكون له الملك وحده؛ ليقنعهم من أي أمل في شفيع، في ولي، في ند، في أصنام، في أشياء من هذه، في وجاهة، في مال، أو أولاد مثلما كان البعض يعتقد أن عنده وجاهة، وعنده أن الله مثل أي زعيم في الأرض، زعماء الأرض عادة يكونون حريصين على الوجهاء، ممكن يسجن ذلك، لكن الوجيه ذلك يكون عنده، لا، الذي عنده أموال وأولاد، يحاول يستدرجه، ويستميله، ويصفح عنه، وأشياء من هذه، فهنا يحصل عندهم ظن بأن المسألة قد تكون على هذا، لو فرض وهناك قيامة فنحن وجهاء، وهو لا يمكن يعذبنا مع أولئك الضعاف، سيحاول يستميلنا، ويدخلنا الجنة.

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، هو عالم الغيب والشهادة، عالم بأنه سيحصل يوم القيامة، وسيجازيهم، كما قال لهم هنا، ألم يقل لهم هنا؟ قوله الحق لا يتخلف، هو الملك، فلا يمكن أن أي جهة تأتي تقول: يلغى يوم البعث، لم يعد هناك شيء يؤجل إلى كذا، هو الملك لا يتخلف قوله، هو {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.

هنا يستعرض احتجاجاً لنبي الله إبراهيم على قومه، أسلوب من الأساليب مثلاً، هنا يذكرهم مباشرة، ويقول لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، أن يقول لهم كذا وكذا.. إلى آخره. وهذا فيما سبق، ثم يعرض لهم في نفس الموضوع قصة حصلت، إبراهيم قال كذا كذا، إلى آخره، إبراهيم رجل يسمعون به، العرب يسمعون به، ويعرفونه، وهنا لاحظ هنا أليس هو سيأتي بقصة من قصص أنبياء الله؟ قصة تتعلق بنبي الله إبراهيم، لكن ماذا؟ في مجال عملي، فهو يقدمها هنا، تعطي عبرة، ويتذكر بها من يسمعها.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الأنعام:74)، إذاً إبراهيم موحد أليس معناه في الآية هذه أنه موحد؟ موحد، ويستنكر اتخاذ آلهة، ويستنكر حتى على أبيه خلي عنك باقي الناس. {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(الأنعام:75) إن الله سبحانه وتعالى كما يبين في أكثر من موضع هي سنته مع أنبيائه، يريهم ملكوت السماوات والأرض؛ ليكونوا من الموقنين، فيما يتعلق بمعرفته سبحانه وتعالى، وفيما يتعلق بالطريقة التي يسيرون عليها، لاحظ كيف بالنسبة لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، هو قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}(الإسراء: من الآية1) ألم يقل هكذا؟ كذلك في مقام آخر يقول: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم:18)، الأنبياء يحتاجون إلى آيات كثيرة في مسيرتهم، آيات كثيرة ليس على أساس أن يؤمن بوجود الله، أو ليوحد الله، القضية معروفة لديه، لا، الميدان واسع جداً، بحيث يعرف أن هناك هذه الطرق يقيناً أنها طرق ناجحة، يقيناً أنها آيات تترك أثرها، ونوعية من الناس لا تترك أثرها فيهم؛ لخلل من عندهم، وقد يكون الله طبع على قلوبهم، – كما تقدم – أليس هكذا يذكر؟ يقدم آياته هي آيات توجد في نفس الإنسان يقيناً، تصل إلى أعماق نفسه.

لاحظ الآن ما الذي نفقده نحن؟ ما الذي يفقده المسلمون؟ أليس اليقين بآيات الله؟ لسنا من الموقنين، يعني بشكل عام، يقول لنا القرآن لا يوجد يقين بأن القرآن يكفي، القرآن يكفي أمام مسلمين، أمام مختلف طوائف المسلمين، أمام مشركين، أمام يهود، أمام نصارى، أمام فلاسفة، أمام ملحدين، أمام زنادقة، أمام كل الفئات، هو يكفي، أليست هذه القضية تحتاج أن تصل إلى درجة اليقين فيها حتى تنطلق؟ لهذا لا بد أن يكون من الموقنين بالنسبة لله سبحانه وتعالى، وهناك عندما سأله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى}(البقرة: من الآية260) يأتي بقصة الطيور الأربعة، مؤمن بالله، مؤمن بالآخرة، نبي يعمل، لكن لاحظ أنبياء الله هم أساساً بشر يحتاجون إلى هدى الله، يكونون نوعية قابلة، واثق بالله، يقبل من الله سبحانه وتعالى، وينطلق، ويثق بشكل عالي جداً.

الآن تجد مثلاً يوجد علماء، ومرشدين، ومعلمين، ودعاة، أليست هذه القضية حاصلة؟ وكتَّاب، ومفكرين إسلاميين، وفلاسفة إسلاميين، لكن يفقدون ماذا؟ أنهم ليسوا من الموقنين بهذه الآيات، هذه الإشكالية الكبيرة.

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، هل أنه ما قد رأى إبراهيم النجوم والشمس والقمر إلا تلك الليلة؟ ولهذا جاء بكلمة: كذلك، يعني: ضمن السنة الإلهية مع نبيه أنه هكذا، هكذا يريه ملكوت السماوات والأرض، وليكون من الموقنين، لما أصبح من الموقنين قدم احتجاجاً قوياً جداً على قومه، قدم احتجاجاً قوياً، وفعلاً يلامس أهم قضية في موضوع تعلق الناس بالأصنام؛ ولهذا استطاع إبراهيم أن يجعلهم في الأخير يبهتون {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}(الأنبياء:64).

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}(الأنعام:76) غرب الكوكب، قال: إذاً هذا ناقص، هذا قاصر، هذا مملوك، هذا مسير. إذاً هناك أكمل منه، هناك الذي يسيره، وهناك أكمل منه، حتى يقرر في نفوس قومه مسألة: أن الألوهية مرتبطة بالكمال، وأن هذه الأصنام التي يعبدونها هي قاصرة، هي قاصرة، وناقصة، أكمل منها النجم هذا، لاحظوا النجم هذا نفسه أصبح أيضاً ناقصاً، أكمل من النجم القمر، والقمر كذلك، ثم الشمس في الأخير ماذا قال؟ {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي}(الأنعام:77) ماذا تعني هذه؟ أليست تعني: أنه مؤمن برب، مؤمن بالله، هو قال هنا: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} كيف ممكن أنت تدور لربك وأنت تقول في نفس الوقت يهدني ربي {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} يعني: هذه نفسها قوله: {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} تدل على أنه مؤمن في نفس الوقت بالله، وأنه في نفس الوقت يقدم هذه القضية أمام قومه، أو مجموعات من قومه؛ ولهذا قال بعدها: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام: من الآية78).

{فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}(الأنعام: من الآية78) أكبر من القمر، أكبر من الكوكب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام: من الآية78) أليس هنا يتحدث مع قومه؟. {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام:79)، إذاً فهذا واحد من الاحتجاجات الهامة التي استخدمها نبي الله إبراهيم فيما يتعلق بإثبات وترسيخ – بطريقة عملية – أن الألوهية مرتبطة بالكمال المطلق، وأن هذه الآلهة هي ناقصة لا تعمل شيئاً، ليست جديرة بأن تعبد، ناقصة؛ لأنه عندما يكون الكوكب مسيراً، أليس معناه أن الذي سيره هو أكمل منه؟ فهو الجدير بأن يعبد، القمر ناقص، مسير، هو هذا مملوك ومسير هو، إذاً هناك أكمل منه هو الله، وهكذا بالنسبة للشمس.

وقضية الكمال هي مترسخة في فطرة الإنسان، الأولوية بالنسبة للكمال هي مترسخة في فطرة الناس، في حياتهم اليومية، خلي عنك أن تكون قضية نادرة، الإنسان يعطي أولوية للأكمل في أي شيء.

ليس المعنى أن إبراهيم لم يكن عارفاً لله، وأنه جلس يبحث، وفي الأخير التفت إلى السماء! هل يتصور أنه لا يعرف هو هذه الكواكب، افترض له في هذا العمر قد يكون له كم سنين، مثلاً خمسة وأربعين سنة، أو نحوها، على أقل تقدير، يعني على مدى الأربعين السنة الماضية لم يكن عارفاً للكواكب والشمس والقمر أنها تطلع وتغرب؟! لكن هنا يذكر أنه في مقام معين مع قومه، وأنها – قضية الاعتماد على هذا الأسلوب الإلهي في محاججة الآخرين على آيات الله في محاججة الآخرين، أنها – قضية تحتاج إلى إيقان.

وهذه القضية ملموسة عندنا أنه لم يحصل إيقان بالطريقة هذه، أليس هذا معروفاً؟ إقرأ كتب علم الكلام تجد منهجيتها هناك ثانية، يبدو من خلال منطق البعض فيها وكأن هذه المنهجية في القرآن هنا ليست إلى درجة أن تزيح شبهة من نفس ملحد، أو على ما يقولون: كافر، ما بالك أن تخلق إيماناً في نفوسهم؛ لأنها لم تأت على طريقة أنه [إذاً فثبت أنها محدثة إذاً لها محدث]!! كان تكفي من خلال الكوكب، ما كانت تكفي من خلال الكوكب نفسه؟ لكن ألم يترقّ هنا في الموضوع؟.

القضية حول ماذا؟ حول الألوهية، الناقص لا يستحق أن يعبد، من الكوكب إلى القمر إلى الشمس، أليس هذا تسلسلاً في درجات كمال؟ وليس حول حادث ومحدث، محدث ممكن يضرب لهم أمثلة من عندهم، من أي واحد منهم، يقول: أنت كنت قبل سنة كذا غير موجود، ثم وجدت، لا يحتاج يطلعهم إلى هناك، لكن بالنسبة لآلهتهم، الكوكب أكمل من الآلهة، أليس أكمل؟ معه مثلاً خشبة، أو حجر، أو أشياء من هذه، ثم أكمل من الكوكب القمر، وأكمل من القمر الشمس، فيما عليه كل واحد منها، لا يقولوا: إن هذه من الإستدلالات، تدل على أن هذه هي الطريقة الصحيحة: دلالة الحادث على المحدث.

وعندما يقول إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، هم يعلمون هم من هو الذي فطر السماوات والأرض، لكن تجد منطق نبي الله إبراهيم، وموسى، هم كانوا في ظل دولة أدعى الملك فيها الربوبية يكون هناك منع، لا أحد يذكر الله، أو يذكر اسم الله، تجد في منطق إبراهيم بالذات، ومنطق موسى، يأتي في عبارات كثيرة: ربي، أو ربنا، أو الذي خلق السماوات والأرض، فطر السماوات والأرض، هو يعلم أنهم يعرفونه؛ لأنه ماذا؟ لأنه قد هو يعتبر تعميماً على أن لا ينطق الإنسان باسم الله – على حسب لغتهم – لا يذكر اسم الله نهائياً؛ لأن الملك قد ادعى الربوبية، ولا يريد أن يذكر غيره، لا يذكر الله، وتكون الآلهة الأخرى باعتبارها آلهة له يعني: يعبدونها وهو الرب الأكبر مثلما عند فرعون {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}(الأعراف: من الآية127) ما يزال معهم آلهة خاصة لكن إله فوق إله، وهذا الإله الأكبر، قد صار فرعون يعتبر نفسه الرب الأكبر.

إذاً هذا أسلوب من الأساليب الهامة بالنسبة لنبي الله إبراهيم، ونبي الله موسى كان منطقهم بالشكل الذي لا يعيق الآخرين عن أن يستجيبوا لهم، لا يعيق الآخرين عن أن يسمعوا كلامهم، العبارة هذه المعممة مثل كلمة: الله – أو على أي مفردة تساويها في لغتهم، تكون هناك عبارات غيرها – لو أنه غير فاهم بأنه عندما يقول: فطر السماوات والأرض لا يعرفون أنه الله لما أمكن أن يقول هذا، لكان سيصرح، منطقه مثل منطق موسى تماماً، ألم يذكر موسى عندما قال له فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}(الشعراء: من الآية23) قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}(الشعراء: من الآية24).

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كلمة: مشركين تشهد بأنهم كانوا يعرفون الله، ويعتبرون الأصنام آلهة مع الله، يشركونها في عبادة الله، في الحكم لها بالألوهية مع الله.

عندما تقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصت وجهي، لن أتجه إلى هذه الآلهة الأخرى أبداً، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}(الأنعام:80)، مجادلة مثلاً من جهة قومه، حاجوه يعني: جادلوه في موضوع الألوهية والتوحيد، هنا كان جوابه قوياً، ألم يكن جوابه قوياً وصريحاً؟ {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} لأنه في مقام أن يكون صريحاً، هم هم الذين يحاجون، {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} بعيد جداً أن أستجيب لكم، أو أن أتأثر بمنطقكم، أليس معناه هكذا؟. هذا منطق يقعد المحاجين، تظهر نفسك قضية مسلمة عندك ليس فيها جدل، واثق منها تماماً، لكن وعلى الأسلوب هذا نفسه {وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} هم ما زالوا يهددونه، سيأتي عليك كذا من الأصنام، وقد يحصل لك {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} هذا المنطق يأتي كثيراً من الأنبياء {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(الأنعام: من الآية111) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي} لأنه هنا ينطلق عبداً لله، مسلِّما نفسه لله، لا يخرجه حتى في منطقه {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي} شيء من جهته.

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ولن يأتي شيء من جهة الأعداء لا يعلمه، من جهة أصنامكم هذه، أنا مخلص لله، ومهتدي بهدي الله، ومؤمن بالله وحده، وأعلم بأنه عليم بكل شيء، فلست خائفاً من هذه؛ لأنها لن يأتي شيء على الإطلاق من جانبها يكون ماذا؟ احتمال الله لم يعلم به، فأخاف أنه قد يحصل من جانبها شيء يضرني في وقت يكون الباري غير عالم، الله هو يعلم لا يخفى عليه شيء، إذا أتى شيء فلن يكون إلا بعلم الله فليكن ما كان.

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ}(الأنعام:81) وفعلاً قدم هذا منطقاً قوياً جداً في الاحتجاج؛ لأنهم هم بالنسبة لهم عندما يذكِّرهم بالله هم يعرفون أنه خلق السماوات والأرض، هو الذي خلقنا، هو قادر على كذا هو… هو إلى آخره. إذاً أنتم تخوفونني بهذه الأصنام التي تنحتونها أنتم، كيف تخوفونني بآلهتكم هذه {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أنتم الذين يجب أن تخافوا أنكم أشركتم بالله، فأنتم في موقع من يجب أن يخاف عذابه، من يخاف عقوبته.

ولاحظ كيف قدمها نبي الله إبراهيم بأسلوب راقي، تجد أسلوباً الناس بحاجة إليه الآن، عندما يأتون يخوفونك من دولة، يخوفونك من أمريكا، يخوفونك من كذا، والقضية عندما تجد القرآن الكريم هم من يجب أن يخافوا هم؛ لأنهم هم الذين ابتعدوا عن الله، وهم الذين يعتبرون الآخرين وكأنهم أكبر من الله، وهم الذين جعلوا الآخرين وكأنهم أنداداً لله، فهم ماذا؟ الذين يجب أن يخافوا هم من الله، يعني هم مثلما قال الله في آية أخرى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}(الزمر: من الآية36).

إذاً فمن هو الذي يجب أن يخاف، الذي يتجه إليه الله فيضربه، أو حجر صماء، أو إنسان كيده ضعيف، أو إنسان هو نفسه الله قاهر فوقه، إنسان مغلوب على أمره، من الذي يجب أن يخاف، من؟ أليس هم الآخرون، هذا يحصل، أليسوا الآن يخوفون الناس؟ فالناس بحاجة إلى أن يقولوا: وكيف أخاف – إذا صحت العبارة – يعني أجواء هذه العبارة التي حكاها الله عن إبراهيم، يخوفك [سيأتي عليك وبا.. وبا.. وبا…] أليس هنا يقدم تخويفاً ممن؟ من الذين من دون الله، قل له: وأنت لاحظ في القرآن ماذا قال لك: سيأتي كذا [وبا.. وبا.. وبا… الخ] من هو الذي يجب أن يخاف؟ هل الذي وراءه الله أو الذي وراءه إنسان ضعيف؟ الله قاهر فوقه، يستطيع يوقفه، ويحبط عمله وكيده.

بعد ذلك قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} من الذي يعتبر آمن في الواقع؟ وأحق أن يقال له آمن؟ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لهذا قلنا: إنه من الأسف أنه فعلاً [سورة الأنعام] هي نزلت إلى المشركين، وما نزال في أمس الحاجة إليها بعد ألف وأربعمائة سنة من وجود الإسلام، من وجود هذا القرآن! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، تفهمون الأشياء برؤية من خلال المقارنة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}(الأنعام:82) هم الموعودون بالأمن، هم الذين يستحقون أن يقال أنهم آمنون، {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}(الأنعام:83) حجة إلهية هذه، نلاحظ هنا في نفس رؤية إبراهيم لملكوت السماوات والأرض كيف يأخذ منها وبهدى الله سبحانه وتعالى وسيلة لمحاججة قومه، لعرض براهين لقومه، ليس معناه الرؤية الخاصة له هو، هناك موضوع الطير، ألم يحكها هناك في موضوع آخر؟ لأنه هنا قدم لنا أمثلة هي ماذا؟ أمثلة احتجاج إبراهيم مع قومه، أمثلة عرض براهين فيما يتعلق بالألوهية مع قومه.

هل هذا الموضوع على أساس أنه استدلال على أن هناك الله؟ داخل الآيات هذه تدلك فعلاً من أول آية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الأنعام:74) أليس معناه موحد؟ هل يمكن أن تحمل الآيات من بعدها على أنه إنسان ما قد عرف الله، وأنه يريد أن يعرف الله، وأنه قدر أن الكوكب ربه، ثم انكشف له أنه غرب؟! أليس هذا منطق رجل، منطق إنسان قد صار رجلاً؟ هل هو لأول مرة يشاهد الكوكب؟ لأول مرة رأى الكوكب، واعتقد أنه رب ثم إنه بعد ذلك غرب، إذاً لا يصلح، والقمر هل هو أول مرة يراه في منتصف الشهر؟.

لاحظ العبارات واضحة عندما قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي}(الأنعام: من الآية77) وبعدها قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام: من الآية78) ثم عندما حاجوه {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} إذاً هو الذي قد هداني لكني أحاججكم، ولاحظ هنا ألم تتجل هداية الله له لمحاججتهم؟ {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وهو من هدى الله، من هدى أن تملك أنت قدرة في الاحتجاج على الآخرين. هذا مما يعلمنا القرآن، الله يعلم الناس من خلال القرآن كيف يكون عندهم قدرة على محاججة الآخرين، وعلى الحديث مع الآخرين، وعلى الدعوة للآخرين.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} هنا يبين العلم نفسه الذي يرفع الدرجات، هناك في آية أخرى: {يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجادلة: من الآية11)، دائماً الناس يقرؤونها في الاحتفالات إذا قد أمامهم أي شخص اسمه عالم، قرأ كذا كذا، {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهو لا يدري بأنهم هناك، [مَنْزَل] وأنزلوا الناس معهم، كثير منهم حقيقة.

لاحظ الطريقة، العلم الصحيح الذي هو بهداية من الله، وهذا مظهر من مظاهره، ألم يقدم هنا مظهراً من مظاهره؟ {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} أليست هذه الحجة هي من هدى الله؟ هو يأتي أيضاً بالكلام عن الهدى، في موضوع الهدى، والهدى من النوع الخاص {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} هذه تبين لنا منهم أولوا العلم الذين ماذا؟ {يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} حكيم عليم، ويهدي من يشاء من عباده ليكون عنده حكمة وعلم.

لو يستخدم الناس المنطق هذا ستجد فعلاً أنه مؤثر في الآخرين، فلان يريد يخوفك من الناس عندما تقول له: انطلق معنا في موضوع كذا، وأمام أعداء الله فيقول لك: [لكن ولكن، وأحسن لك كذا] ويخوفك، أليس هو هنا يخوفك؟ نقول له: [كمَّلت]، لكن لاحظ الله يقول في القرآن كذا، ناس لا يتحركون، لا يستجيبون، لا يعملون في سبيل الله، موعودون بكذا كذا من الدنيا إلى الآخرة {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} هل يستطيع يقول لك، أبداً هذا الشيء يجب أن أخافه، وتخافه أنت أكثر مما تخاف الشيء الذي من جهة الله؟!. لا أحد يستطيع أن يقول لك، ولا حتى [بوش] نفسه، ولا حتى الرئيس الأمريكي نفسه.

كيف ستكون النتيجة بعد؟ سيرجع إلى نفسه هو، وسيجد أنه هو الذي ماذا؟ كما قال هنا: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنه هو الذي لا يعلم ما هو الخوف الذي يجب أن يتوقاه، أنك عندما تخاف الله ستأمن من جانبه، وسيؤمنك أيضاً من ضر الآخرين، مثلما هو منطق القرآن، ومثلما حصل لإبراهيم نفسه، جمعوا له حطب ملان المكان الذي قد أعدوه، وأحرقوه إلى حد أنهم لم يتمكنوا من إلقائه فيها إلا بالمنجنيق من شدة لهيب النار {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(الأنبياء:69)، طفيت! وإذا بإبراهيم بخير لم يصب بأي أذى! ألم يأمن حتى من النار التي قد تعبوا وهم مجمعين لها؟.

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}(الأنعام:84) لكن لاحظ نوعية الهداية هذه؛ لأنه بعض الأحيان عندما قالوا: يجوز قراءة كتب كذا وكذا في المسجد؛ لأنها كتب هداية، كتب أصول الفقه يجوز، وكتب علم الكلام يجوز؛ قالوا: لأنها كتب هداية، أين هي من الهدى؟ بعيدة من الهداية، هنا يبين الهداية كيف هي {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}، أي: وهدينا من ذريته، ليس المقام مقام سرد نسله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} وممن هدينا من ذريته هذا النوع الخاص من الهداية، والهداية الخاصة وفق ما تتطلبه المرحلة التي هم فيها {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} هنا لم يذكر إسماعيل، ألم يذكر إسماعيل في الأخير هناك؟ ليس في مقام تسلسل الأولاد فيقول: ومن ذريته فلان وفلان وفلان، يعدد أولاده وأولاد أولاده، ليس المقام لهذا، مقام الذين هداهم هذا النوع من الهداية، {دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً}(الأنعام: من الآية:84 – 86) لوط ليس من ذرية إبراهيم، لكن ليس المقام مقام سرد ذرية، يعني: هؤلاء الذين هداهم الله، إبراهيم ومن قبله نوح، وهدى من ذريته كذا وكذا، وهدى لوطاً {وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}(الأنعام: من الآية86).

{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}(الأنعام: من الآية87) أيضاً ممن هديناهم {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ} اجتبيناهم، الإجتباء: الإختيار، الإصطفاء. {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ}(الأنعام: من الآية88) هنا يؤشر إلى هدى معين، ويذكر لك الناس الذين قد هداهم بأسمائهم، وهدى من ذرياتهم، ومن آبائهم، وإخوانهم، وذرياتهم {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} بالعبارة التي تعني ماذا؟ أنه هدى عظيم، أنه عظيم فعلاً {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:88).

هذا ليفهم الآخرون بأن قضية الشرك قضية خطيرة وفظيعة، هؤلاء العظماء لو أشركوا لحبط كل هذا الهدى الذي أعطيناهم؛ لتعرف أنت وأنت لست مثل واحد من هؤلاء ولا حولهم، وأنت أيضاً مشرك معناه: الشرك هنا طامة كبيرة عليك، هؤلاء معهم هذا الهدى العظيم، ولو حصل منهم شرك لحبط، فكيف بالمشرك الذي ليس معه هدى، ويعرف من يسمعون هذا بأنهم ليسوا كإبراهيم، ولا إسماعيل، ولا موسى، وهي أسماء معروفة، أسماء معروفة عند العرب هذه، أو معظمها معروف عند العرب، هذا لماذا؟ لتهويل الشرك أنه قضية خطيرة جداً؛ ليبتعدوا عنه؛ ليعرفوا أن هذه الأجيال، وكل الأنبياء وذرياتهم.. إلى آخره، ما كانوا مشركين، أن القضية حادثة، أنها ضلال حدث بالنسبة لهم، لم يكن آباؤهم، ولا كان هؤلاء الناس من أسلافهم مشركين.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}(الأنعام:89)، لأن الله يستبدل، إذا كفر بها ناس سيهيء ناس يؤمنون بها {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(الأنعام:90) هذا خطاب للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} هذه الأسماء التي أمامك نوح إبراهيم داود سليمان.. إلى آخرها، كلها هؤلاء الذين حظوا بهداية الله، وهداهم الله هذا الاهتداء من النوع الخاص؛ ليكونوا هداة {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} اعتبر نفسك في إطار هذه السلسلة العظيمة من أنبياء الله وأوليائه، اقتد بهداهم.

وهنا يتميز لنا القضية التي نقول دائماً أننا نحتاج إلى معرفتها، موضوع الهدى ما هو؟ هل عندما يقول: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} يعني يبحث عن مسألة فقهية كيف كان يعمل فلان يتوضأ فيتوضأ مثله؟ أو يبحث عن موضوع أحكام شرعية؟ لا، مسيرة الهدى، مسيرته وحركته في هداية الناس، يستلهم من هؤلاء من تاريخهم، مما قصه من أخبارهم عليه، كما قال في آية أخرى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(هود: من الآية120) وفعلاً فيهم أشياء كثيرة جداً يستلهم منها الناس، ويهتدي بها الناس، إبراهيم قدم في القرآن الكريم فتىً قوياً مستبصراً عنده ثبات، عنده قوة منطق بشكل فعلاً يعطي هدى، تحاول من خلال سيرته تستوحي أشياء هامة جداً، وعظيمة جداً.

يقول لنبيه (صلوات الله عليه وعلى آله)، أن يهتدي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} لأنها هي المسيرة الدينية، هي المسيرة الواحدة، وحركتهم في الحياة، وهم يهدون الآخرين إلى ما هداهم الله إليه، يتجلى من خلاله أشياء كثيرة، تهتدي بها، تعرف أساليب، وتعرف رؤى، وتعرف كيف تتصرف، ليست قضية فقهية، لا يجعل الموضوع الذي نسميه فقه، هذه تعني شرعه من دينه لأمة معينة، لجيل معين.

ولاحظ أنه كيف لم نهتد برسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، ولا عرفنا كيف كانت طريقته وهو يبلغ دين الله، وهو يتحرك لإقامة دين الله، ولا اهتدينا بمن وجه أن يهتدي بهداهم، قدمت طريقة أخرى بعيدة عن هداه وهدى من قبله؛ لهذا كانت الخسارة كبيرة جداً.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وأن يوجه إليه الخطاب معناه أنك هنا استحضر أن الموضوع أيضاً ما يزال فيه ماذا؟ خطاب للآخرين، للناس في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، المشركين يسمعون قائمة من هذه الأسماء التي يعرفونها، وأنهم لم يكونوا مشركين، ويسمعون أن الله يأمر نبيه محمداً (صلوات الله عليه وعلى آله)، أن يهتدي بهدى هؤلاء، إذاً ونحن لماذا لا نهتدي بهداهم، يقولون هكذا لأنفسهم، ونحن أيضاً لماذا لا نهتدي بهداهم، وأن محمدا (صلوات الله عليه وعلى آله)، هو امتداد لهم.

إذاً فهي ليست طريقة وحيدة، أو طريقة جديدة، هو في نفس الطريقة هذه: الطريقة الإلهية، دين الله، ألم يذكرهم في مقامات أخرى بأن ما جاء به هو ملة أبيكم إبراهيم؛ لأنه ربما عندهم أن السابقين هكذا، كانوا على ما نحن عليه، وليس على ما جئت به أنت، أنت جئت بشيء جديد، أنت بدعاً من الرسل مثلما كانوا يقولون، يقول: لا، هو موجه أن يهتدي بهدى هؤلاء الذين قبله، وما قدمه أيضاً هو ملة إبراهيم، عندما تفهم الدين بشكل واسع، لا تقدر أن معناه: فقه، فقه، يعني: كيف يتوضأ بوضوئهم، أو كيف يصلي بصلاتهم، أو هذه الأشياء، هذه الأشياء ثانية، هي خاصة.

{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} هذا الهدى العظيم الذي هو هدى أسلافكم الصالحين، وليس الآباء الآخرين الذين يقولون: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}(البقرة: من الآية170) ماذا عمل آباؤكم، يقص أذن نعجة، أو يسيِّب حاجة ويتمسك بها كشريعة، هؤلاء هم الآباء الذين يجب أن تسيروا بسيرتهم، وتهتدوا بهداهم، هذا الهدى العظيم الذي يقول فيه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} وهو أيضاً يقدم لكم مجاناً، هو شيء عظيم جدا لكم، وفي نفس الوقت مجاناً. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} فهو يذكر به العالمين، وهم من العالمين، فهم من يجب أن يكونوا في مقدمة من يهتدي بهذا الهدى. لاحظ القائمة هذه يأتي بأسماء لها علاقة ببني إسرائيل، وعلاقة بالعرب، ذكر إسماعيل، وذكر يعقوب، وذكر….

يأتي الحديث حول بني إسرائيل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً}(الأنعام:91) هذا الكلام موجه إلى بني إسرائيل {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} هذا يبين لك كيف يحاجهم، وقد مر كلام أيضاً في الآيات السابقة، في الآيات قبل هذه، كيف كان يحاج إبراهيم قومه.

{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} أليست هذه تعتبر حجة واضحة عليهم؟ لأنهم يعتبرون أن هناك التوراة أنزلت على موسى، وهذه التوراة التي أنزلت على موسى هي نور وهدى للناس كما أن القرآن نور وهدى للناس، ومع هذا يذكر كيف عملوا بهذه التوراة {تَجْعَلُونَهُ} أي: تجعلون هذا الكتاب الذي أنزل على موسى تجعلونه قراطيس، تفرغونه من مضمونه فلا تجعلون له قيمة في واقع نفوسكم، وفي واقع الحياة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} تخفون كثيراً من هذا الكتاب.

إذاً هنا كشف لنا طريقة لديهم في التعامل مع كتاب من كتبهم، الكتاب الذي نزل على موسى الذي يعتبرون أنفسهم أنهم منتمين إليه، وأنه نبيهم، وأن التوراة الكتاب الذي أنزل عليه لهم، ألم يكشف هنا بأنهم هكذا تعاملهم مع التوراة؟ إذاً أليس من الطبيعي أن يخفوا من القرآن أكثر مما أخفوا من التوراة، أو أن يخفوه تماماً – إذا تمكنوا – أن يخفوه نهائياً.

معنى هذا بأنه عندما يكونون متجهين، والناس ليس لهم دخل، عندهم ليس لهم دخل، معنى هذا أنك سترى من عملوا بالتوراة هذا العمل سيعملون بالقرآن ما هو أسوأ من هذا العمل، وفعلاً في إسرائيل يذكرون عنهم بعض المساجد يدمرونها، أو بعض المساجد يقطِّعون المصاحف فيها ويحرقونها، بل قالوا أحيانا أنهم يرتكبون الفاحشة بالفلسطينيات هكذا، [الاغتصاب] الذي يسمونه، ينتهكون الأعراض فوق المصاحف بعدما يمزقونها، أليس هذا معناه شدة حقد؟ حقد شديد جداً في أنفسهم على هذا القرآن؟ وهذا القرآن هو أنزل على محمد (صلوات الله عليه وعلى آله). أليست المسئولية الأولى على العرب؟ عندما يرون بني إسرائيل متجهين هذا الاتجاه إلى تغيير المناهج، إلى الحديث عن القرآن، يريدون أن آيات منه لا تقرأ، وهنا يبين بأنه بالشكل الذي يجعلك تقطع بأنهم متجهين لإخفائه، وليس فقط يبدون بعضاً منه ويخفون الكثير.

إذا كان هذا مع التوراة أما القرآن سيخفونه تماماً، مهما أمكن، عندما يقول الناس: ما لهم دخل، هذه تعتبر جريمة كبيرة جداً على الناس، جريمة كبيرة يرتكبها الناس، جريمة على العرب بالذات، وعلى أهل البيت في المقدمة، أليسوا هم ورثة الكتاب؟ ورثة الكتاب، الله اصطفاهم ليكونوا ورثة لكتابه مثلما كان بنو إسرائيل، ثم نترك هذا القرآن يلعب به بنو إسرائيل والله قد أورثنا الكتاب بديلاً عنهم ثم نتركهم بعد ما لعبوا بكتبهم يتجهون إلى هذا الكتاب ليلعبوا به، هذه تعتبر جريمة كبيرة، هذه ليست بسيطة.

{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} على ما ذكر سابقاً في هدى الله، أن الله يعلم من الناس أنبياءه ومن يهديهم ما لا يمكن أن يعلموه هم، هذه القضية هامة، أحياناً يكون عندنا فكرة أنه لا، يريد واحد هو، يريد واحد هو شخصياً، يريد يكون يطالع ويقرى، ويرى هو، عنده أنه بالطريقة هذه سيحصل على المعارف، ويعرف الحق، ويعرف..، وقد عنده عقل يعرف به كل شيء! لا، إن القضية في الواقع أن الشيء الذي يمكن أن تعلمه، ولا يمكن أن تعلمه إذا انفردت بنفسك، ولا عن طريق آخرين ممن هم على طريقتك، هو الشيء الذي يأتي من جهة الله؛ لأن هدى الله هو الذي يعلم الناس ما لا يمكن أن يعلموه هم، معناه أن الإنسان يسلِّم نفسه لله، ويقبل هدى الله، إذا كان هو يريد أن يكون عنده علم، وعنده معرفة، وعنده نور، وعنده بصيرة، أن يسلم نفسه لله، يقبل هداه، ويعتبر نفسه مثلما يقول لنبيه (صلوات الله عليه وعلى آله)، ألم يقل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طـه: من الآية114).

لاحظ كم هنا من تعليم للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله)! ولنا من بعده، كم يوجد من تعليم هنا في مجال عمله، في مجال أن يقوم بمهمته! قال هناك: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}(النساء: من الآية113)، وهنا قال: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} أن الله علَّم بهداه الشيء الذي لم يعلموه هم، ولا آباؤهم، ومع هذا تعاملوا على هذا النحو: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} فلم يعد يأتي لهم إلا ضلال.

فإذا كنا نريد المعرفة فعلاً، ونريد العلم، ونريد الحكمة، فأنه يجب أن نثق بهذه الطريقة، ونعرف كيف نأخذ الهدى وفق السنة الإلهية للهدى، هذه هي طريق المعرفة التي من خلالها يمكن أن تعرف ما لا يمكن أن تعلمه لو تتعمر ألف سنة من جهتك أنت.

ليس معناه فقط أنه علمك شيئاً ولم تكن تعلم به من قبل بمعنى أنه كان يمكن يأتي من أي جهة، علمك ما لم تكن تعلم، يعني: ما لم يكن بإمكانك أن تعلمه أنت بطريقتك الخاصة، وعن أي طريقة تبحث عنها إلا من جهة الله.

ولاحظ فعلاً انه كيف عندما انصرف المسلمون إلى علوم أخرى ضاعت علوم هامة جداً أمامهم من القرآن الكريم، علوم هامة جداً، ونحن معهم كلنا، طوائف المسلمين بشكل عام، هذا العلم سيضيع أمامنا على الرغم من أن الناس يجدون مشاكل، ويجدون قضايا، وكل واحد حريص أنه يعرف الدين، ويدين بكذا، ويقرِّي. إذاً ما هناك شيء لا يمكن أن يعلموه إلا من جهة الله سبحانه وتعالى، بواسطة كتابه؟.

{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى…} إلى آخر الآية، {قُلِ اللَّهُ} هو أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، وأنزل هذا القرآن نوراً وهدى للناس، هذه سنته، كيف تقولون: إنه ما نزل على بشر من شيء! أليست هذه كذبة واضحة منهم، أن يقولوا هذه؟ {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، استمر في عملك، في طريقتك، أتركهم. هل تركهم على أساس أنه ليس له دخل منهم؟ تكون أنت شغال وفي الأخير هم الذين سيتعرضون، أليسوا هم الذين تعرضوا له؟ لم يهتدوا، ولم يستقروا، وفي الأخير ضربهم.

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(الأنعام:92) يفيد بأنه أنزل هذا الكتاب، وأنه كتاب مبارك، عندما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، فلم يقدروا الله حق قدره؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الحق، وحكمته تقتضي أن ينزل؛ لأنه ملك الناس، وهو إلههم وربهم، أي: ينزل كتباً يهديهم بها. يذكر هنا الصلاة، هو يذكرها في مقامات متعددة، الصلاة تقريباً في كل مجال لها أثر، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}(الأنعام: من الآية93) هذا من الإفتراء على الله عندما يقولون: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}(الأنعام:93)، هذا كله افتراء على الله {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} هؤلاء كلهم ظالمون {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.

إذاً لاحظ هنا كيف في الموضوع هذا، موضوع أمامه بنوا إسرائيل، في محاججة مع بني إسرائيل، وتهديد بوعيد لبني إسرائيل، إذاً برزت قضية فيها ماذا؟ افتراء على الله، وهذه كانت ماذا؟ موجودة عند بني إسرائيل.

{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(الأنعام:93 – 94)، ذكر أيضاً عن المشركين افتراءات، يعني: هنا أمام افتراء على الله، وأن يقولوا على الله غير الحق، يقولون على الله ما لا يعلمون، ذكر أيضاً بالنسبة للمشركين سابقاً: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ}(المائدة: من الآية103) إلى أن قال: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}(المائدة: من الآية103).

فيأتي التهديد هنا في الأخير شامل لكل من يفترون على الله، ولا ينفعهم أي شيء {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} هنا لاحظ أنه في موضوع التخويف، أن تركز على أن تعرف الفئة التي تتحدث معها، ما هو أسلوبها؟ لتخوفها بعاقبة أسلوبها، وهذا في القرآن واسع جداً، أن يقدم الوعد والوعيد في هذا الإطار العملي، ويتناول في نفس صيغ العبارات بالشكل الذي ماذا؟ له علاقة بتلك الفئة التي يتهددها، التي توعدها بهذا العذاب، أهل الكتاب يفترون على الله، يأتي بوعيد يذكر فيه أنه سيقال لهم يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} هكذا بقية المواضيع.

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}(الأنعام: من الآية95) يأتي ليعرض لنا أشياء من مظاهر قدرته، وملكه، وألوهيته، وربوبيته، معرفة، أليس هنا يأتي بآيات فيها معرفة بالله سبحانه وتعالى؟ {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(الأنعام:95) فأنى تصرفون عنه، وتذهبون بعيداً عنه؛ لتعرفوا بأنه فعلاً، أنه هو الذي، هو {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}(الأنعام:96) الفجر عندما يظهر من بين ظلام الليل فكأنه ينفلق عنه الليل، {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(الأنعام:96).

هنا يبين أشياء كثيرة من ماذا؟ من انفلاق البذرة إلى الشمس والقمر، أليس هذا مظهراً من مظاهر ملكه وتدبيره؟ ليبين لنا – مثلما نقول وهذا أسلوب ظاهر في القرآن بشكل واضح – لتعرف أن من يدبر هذه الأشياء لا يمكن أن يغفل الأشياء الأخرى، أن من يدبر الشمس والقمر، ويعمل هذه الأشياء الأخرى من فلق البذور، وتظهر الأشجار منه، كما سيأتي في بقية الآيات، أنه لا يمكن أن يغفل الجانب الآخر، جانب الهداية، جانب التنظيم، التشريع، المنهج، أي: أن هذه واحدة مما يستفاد من عرض هذه النعم، التذكير بها، ثم تعرف من خلالها كيف نعم الله على الناس، وتعرف من خلالها كيف أنه سبحانه وتعالى حي قيوم.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}(الأنعام: من الآية97) كما جعل لكم هذا القرآن لتهتدوا به في ظلمات الحياة، لاحظ كيف جاءت هذه العبارة من أول السورة، ألم يقل هناك: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}(الأنعام: من الآية1)؟ لتعرف أن هذا الظلام الذي تراه لا يفكه إلا ماذا؟ النور الذي يأتي من جهة الله سبحانه وتعالى، هو الذي جعل الظلمات والنور، بل ذكّر الإنسان نفسه بأنه كان أول ما خلق في ظلمات، ثم أخرجه إلى النور؛ لتعرف من هذه الطريقة أنك بحاجة إلى من يخرجك من ظلمات الحياة إلى النور؛ لتهتدي بهذا الهدى.

{قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأنعام: من الآية97) لاحظ هنا آيات كلها يعني: عدة فوائد، عدة أشياء تستفيد منها، ما يتعلق بإسباغ النعم من جهة الله، وما يتعلق بإحسان الله، قدرته، حكمته، أنه حي قيوم، أنه هو الملك، أنه الإله، ثم فيما يتعلق بالجانب الآخر؛ لأن القضية مترابطة، يجب أن تفهم: أن الظلمات هذه التي تراها في الليل لا يفكها إلا ماذا؟ إلا النور الذي يأتي من جهة الله سبحانه وتعالى، {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} أنه لا يخرج الإنسان من ظلمات الحياة إلا النور الذي يأتي منه، هو قال هناك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(النور: من الآية35) وأيضاً بالنسبة لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، يخرجهم من الظلمات إلى النور.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(الأنعام:98)، هو الذي أنشأكم وليس فقط أنه جاء وهناك ناس لا يدري من أوجدهم، هو الذي أنشأكم، وهو حكيم لا يمكن أن ينشأكم إلا لدور مهم، ولغاية مهمة، ولا يمكن أن يترككم سدى، ولا يترككم عبثاً، لازم أن يكون هناك منهج تسيرون عليه، هدى تهتدون به؛ لأن هذا تصرف ملك، وتصرفات الملك أنه ماذا؟ يبين المسيرة، ويعاقب، ويثيب.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}(الأنعام:99) انظروا إلى ثمره إذا أثمر على أساس ماذا؟ لنثبت أن هناك الله؟!، انظر نظرة واقعية تجد كم ستعطيك هذه الأشياء من معارف هامة جداً، تجد كيف أن الله سبحانه وتعالى يبث الشيء الذي يعطي معرفة للإنسان به سبحانه وتعالى، بقدرته بعلمه، بحكمته، بملكه، بألوهيته، أشياء كثيرة يبثها.

بعضهم يأتي يتساءل داخل كتب علم الكلام بأنه كيف بالنسبة لهؤلاء الناس الذين ما قد قرءوا، وعرفوا كيف الاستدلال، كيف إيمانهم؟ هل هو صحيح أو ليس صحيحاً؟ وأخذ ورد حول النقطة هذه! لا يعرفون أن هذا الكون هو كتاب، تجد هنا مظاهر حكمته، وقدرته، نعمته، وملكه، وألوهيته، كلها، عندما يفلق البذرة، عندما ينبت الأشجار، عندما تتحرك الشمس والقمر والنجوم، عندما ترى الناس أنفسهم أمامك، كل الأشياء هذه، كلها آيات من آياته، انظر إليها تجد فيها ماذا؟ ما يجعل معرفتك بالله واسعة، تعرف حكمته، تعرف تدبيره.

وهذه القضية هامة، تجد كيف يذكر جانب من جانب التشريع والهداية، أليس هذا شيء؟ ثم يذكِّر بالجانب الآخر من تدبيره، وهو حركة هذه الأشياء، والتفاصيل في الكون، إنزال المطر، وإنبات الأشجار، الشمس، والقمر، والنجوم، والليل والنهار، أليست هذه القضية من أول ما بدأنا؟ من أول [سورة البقرة] قضية هامة جداً؛ لتعرف أنه لا يمكن أن يتبادر إلى ذهنك – إذا أنت إنسان تفهم وتفقه – أن تعتقد أن الذي يعمل هذه الأشياء سيهمل هذا الجانب الآخر، الذي تراه هنا من هذه الأشياء هو وحده الذي يعملها، أن تعطي هذا الجانب للآخرين أن يعملوه، جانب الهدى والتشريع! فكما أنه هو فالق الحب والنوى، وأنه هو الذي يحرك الشمس والقمر والأشياء هذه، هو أيضاً هو الذي يشرع، هو الذي يهدي هو.

الناس لم يعملوا بالطريقة هذه يقولون: يا الله لك الحمد، ولك الشكر، متى ما جاءهم مطر، والجانب الآخر التشريعي، والتقنيني نعطي الآخرين من الناس! أليس هذا يعتبر جريمة؟ هو قال هناك: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.

{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} عندما يكون جاهزاً {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيؤمن مثلما ذكر المؤمنين في آخر [سورة آل عمران]، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(آل عمران: من الآية191) ثم يأتي يسرد كيف هي رؤيتهم الإيمانية، ألم يقدم رؤية لديهم متكاملة إيمانية؟ هم ليسوا حول قضية: أن هناك الله، الله هو ثابت في الذهنية من غير لا يحتاج إلى استدلال على هذا.

في موضوع الثمر يلمس الإنسان في هذه الأشياء كلها، يلمس أنه محط عناية ورعاية إلهية، أليس هذا شيئاً واضحاً؟ عندما ترجع إلى الجانب الآخر، الجانب المعنوي – إذا صحت العبارة – جانب أن تخشى من الذل، من القهر، من الظلم، من الاستضعاف، من الأشياء هذه.

يجب أن تفهم بأن من رعى الناس هنا، من رعى الإنسان في هذا الجانب، جانب النعم، جانب الماديات هو أيضاً قد رسم المنهج الذي يمثل رعايته لهم في الجوانب الأخرى. لاحظ الثمر نفسه، أليس هو الذي يجعل الثمر بالشكل الذي يتلاءم مع ذوق الإنسان، ورائحة طيبة، وشكل جميل، وذوق جميل؟ أليس هذا مظهراً من مظاهر العناية؟ فيما يتعلق بقوته، وفيما يتعلق بالفاكهة.

إذاً فلنقل: هل يمكن للحكيم الذي هو ملك الناس أن يغفل رعايته للناس في الجانب الآخر؟ بحيث لا يظلمون، ولا يقهرون، ولا يضلون، ولا يستضعفون؟ هل يمكن أن يغفل هذه؟ قلنا: بأن هذه القضية فطرية عند الإنسان فعلاً، لا تجد أحداً في أي بيت من البيوت لا يرى نفسه بأنه مسئول عن أولاده فيما يتعلق بماذا؟ برعايتهم المادية، ورعايتهم المعنوية، أليس هذا معلوماً، يوفر لأولاده الأكل، واللباس، والسكن، والأشياء هذه، ومصاريف ويتعب لهم، وفي نفس الوقت يدافع عنهم إذا ظلموا، ويحاول يوجههم كيف يسيرون لا يظلمون. أليس هذا معلوماً؟ قضية فطرية عند الإنسان. نحن اعتبرنا بالنسبة الباري لا، وكأنه شغال في الجانب الآخر، والجانب الثاني مهمل له تماماً، جانب التشريع، جانب الهداية، جانب الرعاية في القضايا هذه الأخرى، ثم نبحث عند الآخرين، عند ناس يشرعون لنا، وعند ناس يحمونا، وناس نتولاهم على أساس يقونا الظلم، أو القهر.

هذه القضية هامة، تجدها هكذا في القرآن بشكل عجيب، أحياناً يأتي بصفحة، أو بمجموعة من الإرشادات، ثم يأتي بصفحة من مظاهر الكون، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ}(الأنعام: من الآية95) أليس معناها هكذا: أنه يجب أن تؤمن عندما يقول في الأخير: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، إذاً الله هو الذي يهدي، كما أنه وحده الذي يفلق الحبة، أليست هذه أشياء كلها يقدمها هو الذي يعملها وحده؟ إذاً فهذه الأشياء أيضاً الهدى لا يمكن أن تحصل عليه إلا من عنده هو. لكن في الأخير يأتي الإنسان هكذا: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}(الأنعام: من الآية100) بعدما يرى هذه الأشياء أنها من الله هو، أنه يجب أن تؤمن، وأن تعلم أن الجانب الآخر أنه من عنده هو، هو الذي يهديك، هو الذي يشرِّع لك، هو الذي يوجهك، أنت محط عنايته ورعايته في الجانب الآخر، لا تضل، ولا تظلم، ولا تقهر.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} ماذا سيعمل لك جني، {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}(الأنعام:100) مع أنه وحده سبحانه وتعالى الذي عمل الأشياء هذه كلها، فالق الحب والنوى، وجعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسباناً… إلى آخر ما ذكر، وفي الأخير يقولون: بنين وبنات، وأشياء من هذه، هذا لا يمكن، ليس بحاجة إلى هذه على الإطلاق، ليس بحاجة إليها نهائياً.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} هو خلقهم، فكيف يجعلون له شركاء، هو الذي خلقهم، خلق الجن، وخلق هؤلاء الآخرين الذين يجعلون الآخرين شركاء له، {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} نسبوا إليه، قالوا إن معه بنين، مثل الملائكة يجعلونهم بنات الله، مثلما كان يعتقد بعضهم، والنصارى يجعلون المسيح يقولون: ابن الله، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} تنزه، وتقدس {وَتَعَالَى} ترفع وسما عما يصفون.

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}(الأنعام: من الآية101) هذه تشبه الآية الأولى التي مرت في: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} بعد أن قال في المسيح وأمه: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}(المائدة: من الآية75) كانا يأكلان الطعام، ما تعرفون أن الذين يأكلون الطعام هم ناس؟ هنا يقول: أنتم تعرفون بأنه لا يمكن ولد إلا من صاحبة {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}(الأنعام: من الآية101 – 102).

لاحظ كيف يبني على هذا الموضوع كله ما قدم من تعليمات في مجال الهداية، في مجال التشريع، في مجال التبيين، ثم فيما قدم من صفحة في هذا الكون، عن مظاهر هذا الكون، وبعد هذه الصفحة بالذات يقول: {ذَلِكُمُ} الذي هو فالق الحب والنوى وفالق الإصباح.. إلى آخره {هُوَ رَبُّكُمْ}(هود: من الآية34) {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(الأنعام:102) يجب أن تتجهوا بالعبادة إليه، وأنتم تعلمون أنه فالق الحب والنوى، وتعلمون أنه فالق الإصباح، وأنه الذي ينزل المطر والأشجار والأثمار..إلخ، يجب أن تألهوا إليه، وأن تعبدوه.

{هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أيضاً لم يخلق الأشياء وتركها هكذا، هو على كل شيء وكيل، الشمس نفسها تتحرك في فلك معين، إلى أجل معين، هو وكيل في حركتها في السماوات والأرض بكلها، يمسكها، الليل والنهار حركته، هو وكيل على هذه الأشياء، وكيل أيضاً بالنسبة للناس، وكيل فهو الذي يشرع لهم، وهو الذي يهديهم، وهو الرقيب على أعمالهم، يعني: لا يترك شيئاً، ويرمي به هناك، لا يخلق شيئاً ويتركه على جنب؛ لأنه حكيم، لا يخلق أشياء تعتبر أشبه شيء بالقمامة، مثلما يعملون بالسيارات هناك التي لا قيمة لها، يخلق أشياء لها دور معين هو حسيب ووكيل عليها.

{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الأنعام:103) هنا ينزه سبحانه وتعالى ذاته عن أن تدرك بالأبصار، أيّ أبصار كانت، ويأتي بهذا في مقام تنزيه ذاته {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْْ}(الأنعام: من الآية104) بصائر لست بحاجة إلى أن تقول: أنا أريد أن أراه، بصائر تعرف كل شيء بالنسبة لحكمته، وعلمه، وقدرته، وملكه.. إلى آخر ما يجب أن تعرفه كإله، وبصائر ليست متوقفة على أنك لازم تراه حتى تستبصر، قد جاءكم بصائر تهتدون بها.

{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(الأنعام: من الآية104) نفس الأسلوب السابق عندما يقول: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} بالنسبة للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لأن هذه العبارة على لسانه قل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(الأنعام:104)، أنا لا أثيب ولا أعاقب، أنا لا أمتلك هذا الثواب والعقاب، الذي يمتلكه هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي هو حفيظ عليكم، ورقيب عليكم، وهو الذي سيثيب ويعاقب.

إلى هنا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله،،،

[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]

التعليقات مغلقة.