التصعيد الأمريكي الإيراني والسيناريوهات المحتملة لتطورات الصراع
عبدالملك العجري
كانت استراتيجيةُ الإدارات الأمريكية السابقة تديرُ الصراعَ مع إيران على معادلة لا حرب ولا سلم ومع حلفاء إيران بفصلهم عن إيران من خلال تشجيع وَحث الأنظمة على إشراكهم في السلطة وتقديم محفزات تربط مصالحهم بالداخل وفصلها عن إيران وَتشجيعهم على التحول الأيديولوجي وَالتخلي عن العمل المسلح والاندماج في العملية السياسيّة ولعبت قَطر دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية، وحقّـــقت نجاحاتٍ نسبيةً مع الإخوان المسلمين وحركةِ حماس قبل أن يأتي ترامب ومحمد بن سلمان ليقوِّضَ النجاحات القطرية
سياسةُ ترامب كما محمد بن سلمان انقلابٌ على سياسات أسلافهم؛ لتحقيقِ مكاسبَ سريعة يحتاجانها لإحداث فارق يعززُ مستقبلَهما السياسيّ؛ لذلك يفكران بعقليةِ التاجر في طلب الكسب السريع.. وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط كلاهما بحاجة لنصر سريع على إيران وحلفائها.. أخفق ابنُ سلمان في تحقيقِ النصرِ الموعود في اليمن، واتّبع ترامب سياساتٍ دفعت بالأمور نحو الحافةِ وأحدثت تغييراتٍ جوهريةً على معادلة الصراع وخلقت معادلاتٍ ثنائيةً حَادَّةً، وعندما لم يفلح انسحبت إدارةُ ترامب من الاتّفاق النووي في إرغام إيران على إعادَة التفاوض معه أعلن حرباً اقتصادية تجاوزت كُـــلَّ الخطوط الحمراء تهدّد بتقويض الاقتصاد الإيراني والتعجل بانهيار النظام وخلق اضطرابات اجتماعية.
يحاولُ ترامب تبريرَ سياسته والردِّ على منتقديه بسيلٍ من التغريدات يؤكّــــدُ أنه لا يريدُ إلّا التفاوض مع إيران وإجبارها على اتّفاق جديد يشملُ إضَافَة للنووي مِـلَـفّات الخلاف المتعلقة بصراع النفوذ والصواريخ والسلام مع إسرائيل، كما تطالب السعوديّة وإسرائيل غير أن هذا لا يقنعُ منتقديه فالردعُ لا يكونُ بتجاوزِ الخطوط الحمراء للخصم؛ لأَنَّك بذلك تدفعُ خصمَك لتجاوز خطوطك الحمراء، وهي مجازفةٌ خطيرةٌ وغيرُ محسوبة من ترامب لتحقيق مكاسبَ غيرِ مؤكّــــدة.
ردَّت طهران أَيْضاً بتجاوُزِ الخطوط الحمراء الأمريكية وإنْ بطريقة حَذِرَةٍ لا تفجر الوضعَ وتتيحُ لعجلة المفاوضات بالانطلاق وَتحاولُ واشنطن خطوطَ فتح خطوط اتصال مع طهران من خلال سويسرا البلد الذي شهد إعلان ميلادِ الاتّفاق إضَافَةً إلى العراق والاتّحاد الأوروبي، سلطنة عُمان التي نقلت رسالةً لإيران الأسبوع الفائت بناء على طلب أمريكي.
إيران تؤكّــــدُ التزامَها بالاتّفاق وتحمل أمريكا مسؤولية التصعيد وفي نفس الوقت ترفُضُ القبولَ بإعادَة الاتّفاق وربطَه بمِـلَـفّات النفوذ العالقة أَو تخييرها بين الحرب أَو المفاوضات. واقوى ورقة ضغط بيدها أن تتصرف بموجب المادة 26 من الاتّفاق النووي، التي تنُصُّ على أنه إِذَا أعادت واشنطن فرضَ العقوبات، فَإنَّه يمنحُ إيران مدخلاً لإيقاف تنفيذ التزاماتها الراهنة سواء بشكلٍ كامل أَو جزئي.
والسؤالُ ما هي فرصُ الدبلوماسية المكوكية في التوصل لاتّفاق ينهى التوتر؟ وماذا لو اضطرت إيران لاستخدام الورقة النووية والاستجابة لضغط المحافظين بإعادَة تشغيل المفاعلات؟ كيف سيتصرف ترامب بعد أن رمى بكل أوراقه الاقتصادية ولم يبقَ أمامه إلّا الحرب أَو تقبل الأمر، وهي هزيمة كبيرة له؛ لأَنَّه يكونُ قد منح إيران الفرصةَ التي تحلم بها على طبق من ذهب؟
احتمالُ التوصل لاتّفاق شامل ينهي مِـلَـفّات الخلاف العالقة أقربُ للمستحيل في وقت حرج لا يحتمل التأخير لوقت أطول وَبقاء الصراع مفتوحاً بعد أن دفعَه ترامب إلى نهايته وَإِذَا استغرق اتّفاقُ لوزان 15 عَاماً لحسم مِـلَـفّ واحد وهو المِـلَـفُّ النووي فكم من الوقت يحتاج الاتّفاق على بقية المِـلَـفّات؟
الأمرُ الآخرُ التعقيدُ الذي يمليه التناقُضُ الكبيرُ في الإرادات فإيران وإن كانت لا ترفض التفاوض المباشر سواء مع أمريكا أَو مع السعوديّة ومن معها من دول الخليج لكنها ترفض التفاوض في ظل فرض خيار الحرب أَو المفاوضات أَو إعادَة التفاوض في النووي كما يريد ترامب.. كما لا ترفضُ التفاوضَ مع السعوديّة ومن معها من دول الخليج، والتوصل لصفقة إقليمية أَو تسوية إقليمية بين إيران والسعوديّة ليس صعباً، لكن المشكلة أن رضوخَ السعوديّة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية في توحيد مِـلَـفِّ صراع النفوذ وَادماج مشكلة إسرائيل ضمن المِـلَـفّ والتفاوض عليه حزمة واحدة عقّد من إمْكَانية التوصل لاتّفاق، وتشترط إيران فصل مِـلَـفّ إسرائيل عن مِـلَـفّ صراع النفوذ الإيراني السعوديّ.
وبما أن فُرَصَ المفاوضات الشاملة كما يشترط ترامب صعبةٌ ومعقَّدةٌ فهل سيختار ترامب الحربَ؟ وَإِذَا اختار الحربَ فهل بغزو إيران وإسقاط النظام كما حصل في العراق أم من خلال ضربات محدودة ومركّزة تستهدفُ بالدرجة الأولى المفاعلات النووية؟
إعلانُ حرب شاملة لإسقاط النظام وغزو إيران وهو آخر ما يمكن أن يفكرَ فيه ترامب فإيران ليست العراق لا من حيث المساحة ولا من حيث القدرة على المقاومة والصمود، وَإِذَا كانت أمريكا في غزو العراق اضطرت لحشد ما يقارب عدد القُــــوَّات الأمريكية 150 ألف جندي، القُــــوَّات البريطانية كان عددها 46 ألف جندي فإنها ستكونُ مضطرةً لحشد أضعافِ العدد في غزو العراق وحَالياً عدد القُــــوَّات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط كلها فوق 40 ألفاً، 30 ألفاً منها في منطقة الخليج والعراق.
وعلى خلافِ ما كان عليه العراق، سيضطرُّ ترامب لخوض حربِه لوحده هذه المرة من دون حلفاء كما في حرب العراق بمشاركة حلفاء مهمين كبريطانيا وإسبانيا. وغير هذا لدى إيران حلفاء من المقاتلين العقائديين المنتشرين في أَهَــمّ مناطق انتشار القُــــوَّات الأمريكية وبإمْكَانهم إلحاق ضربات موجعة بأمريكا وحلفائها وشل حركة الاقتصاد العالمي واستطاعت أن تطور أسلحة ردع بسيط وَفعّال ومفاجئ خارج حسابات منظومات التسليح العسكريّ وأربك معادلات الحرب العسكريّة الحديثة.
السيناريو الأقربُ للواقع هو التوصُّلُ لاتّفاقٍ أوّلي يسمحُ بتخفيض التهديد والضغط على الاقتصاد الإيراني لمستوى يمكّنُه من الاستمرار وَيسمحُ بإطلاق مفاوضات أمريكية إيرانية طويلة بَعيداً عن خيار الحرب أَو المفاوضات وذلك من خلال قبول أمريكا خفضَ وتيرة فرض عقوباتها الأخيرة على قطاع الطاقة ومن خلال السماح للعراق وَالشركات الأجنبية باستلام شحنات النفط الإيراني لتسديد الديون، أَو حصول إيران على التزام من الأطراف الدولية باستمرار تدفق الطاقة.
وقد تندلع مواجهاتٌ محدودةٌ من حيث أن الهدفَ ليس إسقاط النظام بل يستخدمها كُـــلُّ طرف لتحسينِ شروط التفاوض وتحقيق مزيدٍ من الضغوط بحسب ما تسفرُ عنه من نتائجَ مع احتمالِ توسُّع رَقعتَها لمناطقَ أُخْــــرَى كالعراق ولبنان وفلسطين، وهذا هو الأرجحُ ويتفقُ مع هدفِ ترامب في إجبار إيران على التفاوض، وقد تختار إيران رَدًّا محدوداً يتناسبُ مع حجم العدوان، وقد تتسع رقعتها ويستخدمُها كُـــلُّ طرف لتحسينِ شروطِه في التفاوُضِ وتزدادُ فُرَصُ هذا السيناريو إِذَا لجأت إيران لاستخدام المادَّة 20 من الاتّفاق النووي.
التعليقات مغلقة.