من وحي مدرسة الصوم (1)
عبد العزيز البغدادي
أولاً : في مفهوم الصوم : الصوم هو الامتناع عن الطعام أو الشراب أو كليهما وفي الأديان ومنها الإسلام يضاف الامتناع عن الشهوات وفيه تنشط العبادات البدنية وأهمها الصلاة والمالية وأبرزها الزكاة ومدته تطول أو تقصر طوعاً أو كرهاً ، وقد يكون الصوم نوعاً من الاحتجاج أو الضغط السياسي أو الاجتماعي لتحقيق هدف معين مثل المطالبة بالإفراج من سجن تعسفي سياسي أو طلب إعادة المحاكمة لمحكوم عليه ظلماً أو لعدم توفر شروط المحاكمة العادلة القانونية والشرعية أوتضامناً مع مطالب محقة كالمطالبة بتحسين أوضاع السجون والسجناء وقد يكون الصوم تعبيرا عن مطالب فردية أو مجتمعية ، والصوم معروف ومفروض في مختلف الأديان السماوية والوضعية ، منها المسيحية مثلاً الذي تصل مدته في بعض مذاهبه إلى ستة أسابيع قبل عيد القيامة ، ويستمر إلى خمسين يوماً منها ما يسبق أسبوع الآلام وبالإضافة إليه ، وفيها تتعدد تقاليد الصيام بتعدد الكنائس ، فالكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس الغربية يكون الصوم بالانقطاع عن اللحوم ومنتجات الحليب والأجبان مدة أربعين يوماً ، وصوم الأقباط خمسة وخمسون يوماً ، وتقاليد الصوم المسيحي واليهودي وغيره من الأديان والصلوات المرتبطة به مسألة بحث تتسع وتتعدد بتعدد الكنائس والمدارس المسيحية واليهودية الغربية والشرقية .
ثانياً : مدرسة الصوم في الإسلام : يقترن الصيام في الإسلام بالقرآن الكريم كأساس فكري ومعرفي تدور وتتمحور حوله كل الاجتهادات ومن آيات الصوم قوله تعالى في سورة البقرة ((182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )184( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
والصوم طبقاً لهذا التأصيل أحد أركان الإسلام ومرتبط بالتقويم القمري (الهجري) لتعلقه بالهجرة النبوية الشريفة، وقد وثّق المسلمون وقائع تأريخهم وجزءاً كبيراً من فرائضهم به كالصوم والحج والأعياد الدينية ، أما المسيحيون فبالتأريخ الشمسي(الميلادي) ، ولست هنا بصدد بحث الفوارق بين التقويمين أو تأريخ بدء أيٍ منهما ، ولكن مما يثير الاهتمام أن دوران السنة الهجرية المرتبطة بدوران القمر حول الأرض تجعل الصوم والحج والمناسبات الدينية الإسلامية المعتمدة على هذا التقويم تمر بمختلف فصول العام الصيف والشتاء والربيع لوجود فارق أحد عشر يوما في السنة بين التقويمين فأيام السنة الميلادية حوالي 365 يوماً أما التقويم الهجري المعتمد على دوران القمر حول الأرض وهي (12) دورة في السنة وكل دورة شهر قمري بأسمائها المعروفة ،فأيامها حوالي (354) يوماً ولا يوجد خلاف يستحق النقاش في المنظور العام للصوم في الإسلام وهو لذلك يفترض أن يكون مدرسة موحدة يستخلص المسلمون منها تجربة جامعة يستفيد منها الفرد والمجتمع صحياً واجتماعياً وثقافياً وبتعدد فوائد الصوم الذي تناولته كثير من الدراسات ، ويفترض كذلك أن يتولد عن دخولهم هذه المدرسة السنوية تراكم معرفي يبدأ بتنقية هذه الفريضة من العادات السيئة والاستفادة من العادات الإيجابية ، ولكن بدلا من ذلك نراهم يستجرون وبصورة مخجلة خلافات حول قضايا شكلية مثل بداية شهر رمضان والعيد رغم أن الأصل القرآني قد حسم هذه المسألة بربطها بالمشاهدة ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، وكذا الحديث النبوي الشريف ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما ) ؛
نصوص لا تحتمل الخلاف، لكن السياسة السائدة تتلاعب بالدين وتنال منه ليس في هذه المسألة فقط وإنما في قضايا أخطر منها تحول شهر رمضان مثل بقية الفرائض في الاتجاه المعاكس للعلة من وجوده حيث يصبح أقرب إلى شهر لسباق بعض التجار المغالين في رفع أسعار المواد الغذائية وإطلاق العنان لسرقة المواطن واستغلال اندفاعه المجنون نحو شرائها وتخزينها وكأنه يستعد لمعركة سباق على الطعام ،ليتحول رمضان بهذا من شهر للرحمة إلى شهر للتخمة والتفنن في الوجبات مع أن الصائم لا يحتاج للتفنن في فتح شهيته فالصائم مستعد لأكل أي نوع من الطعام ومنها الأطعمة الخشنة والبسيطة التكوين وربما كانت الأكثر فائدة من الأطعمة الدسمة ،ومن الطرائف الرمضانية القديمة أن أحد الصائمين في اليوم الأول من رمضان مرّ بسوق الحلَقة في صنعاء القديمة فاستحسن منظر برسيم (قضب) طري فاشترى منه حزمه مع أنه ليس معه حيوان في البيت !! ، وقد يتحول شهر رمضان بفعل العادات السيئة من شهر للتعاطف مع الفقراء إلى شهر لإيذائهم بتجميعهم عند أبواب بعض لصوص التجار والمسؤولين بانتظار توزيع الفتات مما نهبوه من جيوبهم وفي هذا إهانة للفقير وحطٌ من كرامته وبعض المنظمات والجمعيات تقوم بتصوير المصطفين في الأبواب أو بجوار شاحنات بعض المنظمات التي تتاجر بمعاناة الناس ومآسيهم وتمتهن نهب المساعدات وتوزع الفتات منها !!.
القلب يفرح بالصيام ِ وينتشي * والروح يبزغ فجره ويلوحُ
التعليقات مغلقة.