خذوه فغلوه قد تكون انت
عندما يأتي الأمر من الله “سبحانه وتعالى” لملائكته وهم الزبانية: الشرطة الإلهية المعنية والمتخصصة في نقل أهل النار إلى النار، {خُذُوهُ} أمرٌ من الله “سبحانه وتعالى”، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة: الآية30]، قد تكون أنت هذا الذي يأتي هذا الأمر الإلهي بغله، بتقييده بقيود الله “سبحانه وتعالى” القيود الرهيبة، القيود التي ستبقى مقيداً بها لا تنفك عنك، ولا تستطيع أن تتخلص منها وتتحول إلى جزءٍ مستمرٍ من عذابك وآلامك والضيق الذي ستعاني منه بشكلٍ مستمر، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة: الآية32]، ليس فقط القيود التي ستغل بها اليدان إلى الرقبة، لا، إنما أكثر من ذلك السلاسل التي ستوثق بها، وهي حالة رهيبة جداً، الله “جلَّ شأنه” قال: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: الآية26].
ولا يستطيع ذلك الجمع الهائل من البشر، وهم الأغلبية الساحقة من البشر الذين سيُذهب بهم إلى جهنم، عند عملية تجميعهم وبداية نقلهم، وقت ما هم يحشرون وينقلون في الاتجاه الذي سيذهبون من خلاله إلى جهنم، وينقلون من خلاله إلى جهنم، مع كثرتهم الهائلة وحشودهم الكبيرة وجمعهم الغفير، لكنهم لا يستطيعون أبداً أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك، أن يمتنعوا عن الانتقال؛ لأنهم في حالةٍ من العجز والضعف والاستسلام، بل إن الله “سبحانه وتعالى” يقول لهم، قال “جلَّ شأنه”: {وَقِفُوهُمْ}، أثناء عملية التحريك لهم والنقل لهم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات: الآية24] سؤالاً واحداً، هذا السؤال ما هو؟ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}[الصافات: الآية25]، أنتم في جمعكم الكبير والهائل، أنتم من كنتم في الدنيا تتعاونون على الباطل، وتتناصرون على الباطل، وتتحالفون على الإثم والعدوان، وكنتم في الدنيا تتعصبون لبعضكم البعض، البعض قد يكون في هذه الدنيا يعتز بجيشه ويمتنع بجيشه، البعض في هذه الدنيا قد يكون يمتنع بقبيلته، وتتعصب له في الموقف الباطل، وتهبّ معه لتقف إلى جانبه حتى لو كان ظالماً، أو كان مفسداً، أو كان في الموقف الخاطئ. لا القوم، ولا القبيلة، ولا الجيش، ولا الأمة، ولا أي انتماء ولا أي إطار كنت تستند إليه في هذه الدنيا يمكن أن يقف معك، أو يحميك، أو يدفع عنك، التجمعات تلك الحاشدة والهائلة جداً، وهم ينقلونها إلى جهنم يقول الله لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}[المرسلات: الآية39]، أين تلك المخططات، أين تلك المؤامرات، الخطط الرهيبة، الكيد الرهيب الذي في الدنيا كادت تزول منه الجبال، أين هو؟ أين أولئك المخططون والبارعون في مكرهم وفي حيلهم أين هم؟ أين أصحاب المهارات العسكرية، والقدرات العسكرية، والمعنويات العالية، والشجاعة الكبيرة؟ أين أولئك الطغاة والمتجبرون والقساة القلوب؟ أين كل تلك القوة والإمكانات الهائلة التي كانت بأيديكم في الدنيا تتسلطون بها، وتظلمون بها، وتمتنعون بها، أين ذلك كله؟
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}[الصافات: الآية26]، الكل في حالةٍ من الاستسلام والخضوع التام، والانسياق رغماً عنهم، ينقلون رغماً عنهم، لا ينتقلون برغبتهم، ولا يذهبون إلى نار جهنم باندفاع وتفاعل، وخطوات يتقدمون بها بلا اكتراثٍ ولا مبالاة، لا، الله يقول “جلَّ شأنه” عن عملية نقلهم عن أنها إجبارية رغماً عنهم.
كان الكثير في الدنيا يتثاقلون ولا يخطون الخطوات فيما هو رضا لله “سبحانه وتعالى”، فيما فيه نجاتهم من عذاب الله، فيما فيه الخير لهم، الخطوات التي تكتب لك على كل خطوة أجر وحسنة، {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}[التوبة: من الآية121]، في الحركة في سبيل الله كل خطوة لك عليها أجر وثواب، فيتثاقلون، في الانتقال إلى الأعمال الصالحة يتثاقلون مع أنه على كل خطوة حسنة.
هناك ينقلون رغماً عنهم، يقول الله “جلَّ شأنه”: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور: الآية13]، يدفعون دفعاً رغماً عنهم، ويجبرون على ذلك، وينقلون برغم أنوفهم، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: من الآية41]، منهم من يسحب ويؤخذ برأسه، منهم من يسحب بقدميه ويدفع دفعاً، وينقل نقلاً إجبارياً وهكذا، حتى يصلوا إلى شفير جهنم والعياذ بالله، وهي من اللحظات الرهيبة جداً جداً جداً، لدرجة أن الإنسان عندما يصل إلى شفير جهنم يحاول أن ينكر من جديد ما قد ثبت عليه في ساحة المحشر، ما قد رآه هو بنفسه في صحيفة أعماله، ما قد ثبت عليه بالشهود، هناك يحاول من جديد أن ينكر، ولكن تأتي الاثباتات الدامغة التي لا يملك معها أن يكابر أبداً.
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا}، فإذا وصلوا إلى شفير جهنم والعياذ بالله، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[فصلت: الآية20]، يُشهِد الله عليهم من حواسهم: السمع والبصر، وتشهد عليهم جلودهم، وهي حالة لا يمكن للإنسان بعدها أن يكابر أبداً، شهد عليه حتى جلده، يندهشون، يتفاجؤون من ذلك، ويصل بهم الاندهاش والتفاجؤ جداً من شهادة حتى جلودهم عليهم أن يوبخوا جلودهم، وأن يعاتبوها، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}؛ لأنها شهادة لم يملكوا بعدها أن يكابروا أبداً، لم يبق لهم ما يقولون بعدها أبداً، {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}، تجيبهم جلودهم، فماذا تقول لهم؟ {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ}، ما كنت تتوقع هذا، ولا كنت تملك في الدنيا أن تستتر، قد تستتر في هذه الدنيا لارتكاب بعضٍ من المعاصي في غرفةٍ مغلقة، قد تذهب إلى مكانٍ لتختفي فيه فلا يراك الناس، قد تستتر بأي وسيلةٍ من الوسائل، قد تختفي، قد تختلي، لكن سمعك ولكن بصرك لا يمكن أن تختفي منه، هي حواسك التي هي مركبةٌ فيك، ولا من جلدك ، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}، هل يمكن أن تستتر من جلدك؟ هل يمكن أن تختفي حتى لا يراك جلدك، حتى لا يوثق عليك ما تعمل؟ كل شيءٍ موثق بدقة، الإثباتات والشهود مع رقابة الله، ورقابة الله فوق كل شيء؛ لأن الله يعلم ما توسوس به نفسك، {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: من الآية 19]، يعلم ذلك بكله، حالة رهيبة جداً {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}[فصلت: الآية21]، وهي حالة رهيبة جداً لا يملك الإنسان بعدها أن يكابر، حينما يصلون إلى شفير جهنم، وإلى أبواب جهنم، وهي كما قال الله “سبحانه وتعالى” عنها: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية44]، وهم موزعون بحسب جرائمهم وجناياتهم وتفريطهم وعصيانهم إلى دركات جهنم، فالجنة درجات، وجهنم دركات.
الدرك الأسفل في جهنم لمن هو، هناك فئة ممن يعذبون في الدرك الأسفل من النار، في أشدها عذاباً، في أشدها ألماً، هم المنافقون، الله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145]، والمنافق ينتمي للإسلام، ويصلي ويصوم، وهو من بين المسلمين، يعيش فيما بينهم، وبطاقته إذا معه بطاقة، وهويته إذا معه هوية معينة جواز أو غيره، سيكون دينه مسلماً، {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}[المنافقون: من الآية1]، كانوا يقولون هكذا، الله يقول عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، في أشد موضعٍ في جهنم عذاباً والعياذ بالله.
ولاحظوا كيف يندهش خزنة جهنم، الملائكة الموكلون بعذاب أهل النار في النار، عندما تصل تلك الحشود الهائلة والمجاميع الكبيرة، والأفواج الكثيرة العدد (بالمليارات من البشر)، عندما يصلون إلى شفير جهنم، يندهش الملائكة هناك، ولكن ليس هناك الاستقبال بالتكريم، والاستقبال الإيجابي، ولكنه التوبيخ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} والعياذ بالله! فتحت تلك الأبواب السبعة، الأبواب الهائلة، الأبواب الجهنمية، {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} وهم يندهشون من كثرتهم، من أعدادهم الهائلة جداً، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى}[الزمر: من الآية71]، قد أتت الرسل، وأتى النذير بلقاء هذا اليوم، أتى التحذير من هذا اليوم، أتت حتى تفاصيل، حتى هذا التفصيل، حتى هذه اللحظة، ربما البعض يتأمل، يتذكر أنه قد عرف حتى عن هذا المشهد، وقد سمع بهذا المشهد وهو في الدنيا، نقلت إليه من القرآن هذه الصورة وهو في الدنيا وأمامه الفرصة الكافية ليتلافى نفسه وتقصيره، وليعمل على ما فيه نجاته من تلك اللحظة الرهيبة ومن ذلك المستقبل الرهيب جداً والعذاب العظيم، {قَالُوا بَلَى}، حالة رهيبة جداً هناك.
وعندما تفتح الأبواب هل سيتزاحمون على الدخول وهم يندفعون كلٌ يريد أن يدخل هو الأول، لا؛ إنما يلقى بهم إلقاءً داخل جهنم، تأخذهم الملائكة وتدفعهم وتلقيهم إلقاءً، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك: من الآية8]، من جديد عندما يلقى إلى جهنم، وهي حالة كيف سيكون حال الإنسان عندما يلقى إلى جهنم؟! كيف سيكون خوفك وقلقك واضطرابك النفسي لو تلقى في فرن من الأفران العادية في هذه الدنيا، وهم يأخذونك قسراً وإجباراً ويريدون أن يدخلوك فيه، وأن يحنذوك فيه، وأن يصلوك فيه، كيف سيكون رعبك وقلقك وخوفك؟! أمر رهيب؛ أما جهنم فهي عذاب الله الأكبر، العذاب الشديد، العذاب المهيل، النار قال عنها الله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان: الآية12]؛ أما وقد وصلوا إليها كيف هي أصوات استعار نيرانها؟! كيف هو القصيف الهائل؟! كيف هي الأصوات الرهيبة جداً والشهيق والزفير الذي هو من أصواتها المخيفة جداً، حتى الأصوات في جهنم أصوات مرعبة جداً ومخيفة للغاية، كيف هي مشاهد استعار النيران فيها والدخان الهائل، كيف هي المشاهد للشرر الذي يتطاير وهو كالقصر، شرر (كتل هائلة جداً) تتطاير من شدة التوقد والاستعار داخل جهنم والعياذ بالله! كيف هي مشاهد الحميم الذي يسيل فيها ودياناً وأنهاراً، شيءٌ منها من الصديد، شيءٌ منها من الحميم الذي يغلي، كلها مشاهد رهيبة ومهولة.
المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 28-04-2020
التعليقات مغلقة.